شبهة الرسول يميل للنساء
الزعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مزواجا شديد الميل للنساء
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المشككين أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان شهوانيا مزواجا محبا للنساء، وأنه كان شديد الميل لهن والولع بهن، ويستدلون على ذلك بما يزعمونه من أنه:
· كانت له ست عشرة زوجة وسرية، ومع ذلك كان ينكح كل من وهبته نفسها، من غير تقيد بعدد.
· جمع بين هذا العدد من النساء في حين أنه حرم على المسلمين أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة، وهو بهذا قد استحل لنفسه ما حرمه على غيره.
· لم يختر زوجاته على أساس ديني؛ بل كان لهوى في نفسه.
· اتخذ لنفسه من النكاح متعة على عادة سلاطين الشرق، بمجرد أن استقر له الأمر.
· كان ينساق خلف شهوته ويعزف عن عفاف القلب والروح؛ ومن ذلك أنه غضب من صحابته يوم وليمة زواجه من زينب بنت جحش – رضي الله عنهاـ لأنهم تأخروا في الانصراف؛ مما عطله عن تلبية نداء مزاجه.
· اعتبر زواج المسلم بلا مهر ولا شهود ولا ولي زواجا فاسدا، في حين أنه أباحه لنفسه؛ فقد أعتق صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها دون شهود ولا صداق ولا موافقة ولي، واعتبر مجرد عتقها صداقا لها.
· وأخيرا… أباح تعدد الزوجات لأتباعه كنوع من محاولة الدخول في هذه العباءة الفضفاضة لكي لا يبدو أكثر شهوانية منهم.
ويهدف هؤلاء المشككون من وراء ذلك كله إلى الطعن في حياته – صلى الله عليه وسلم – الخاصة وعلاقته بالمرأة وإلباسها ثوبا – لم تلبسه – من الشهوانية والميل الغريزي.
وجوه إبطال الشبهة:
1) تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لم ينكح كل من وهبته نفسها، ولم يكن – صلى الله عليه وسلم – بدعا من البشر في تسريه؛ وذلك لأن التسري أمر موجود منذ إبراهيم – عليه السلام – والتوراة تذكر أن أنبياء بني إسرائيل قد اتخذوا السراري، فلما جاء الإسلام أقر هذه الظاهرة، ولكنه قيدها ووضع لها شروطا وضوابط تكفل حماية السراري.
2) لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في تعدد زوجاته؛ فأمر تعدد زوجات الأنبياء والرسل معهود ومشروع في أغلب الأديان السابقة، وقد تزوج إبراهيم وإسحق وداود وسليمان – مثلا – بأكثر من زوجة.
3) لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أمر المسلمين ألا يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات إلا مبلغا تشريع ربه، أما جمعه – صلى الله عليه وسلم – بين أكثر من أربع فهو مما اختصه الله – عز وجل – به ولا يجوز لغيره.
4) اختياره – صلى الله عليه وسلم – لزوجاته كان على أسس دينية وحكم إنسانية ومقاصد تعليمية مأمور بها، ولم يحد عنها – صلى الله عليه وسلم – في أي زيجة من زيجاته.
5) انطلق السلاطين في تعدد نسائهم من أمر دنيوي، لا يعدو أن يكون التعدد فيه مجالا للمتعة المزاجية واللهو الجنسي؛ ولذلك فإنهم كانوا لا يرضون إلا بالأبكار الجميلات؛ فهل يعقل أن يشبه النبي – صلى الله عليه وسلم – بهؤلاء، وهو الذي تزوج في أول عهده بالزواج امرأة ثيبا تكبره بخمس عشرة سنة، ولم تكن في زوجاته بكر إلا عائشة؟!
6) ما جاء به القرآن في قصة وليمة زواجه – صلى الله عليه وسلم – من زينب بنت جحش إنما كان تهذيبا لسلوك المسلمين، وتنبيها لهم إلى مراعاة شدة حياء النبي – صلى الله عليه وسلم – وما ينبغي لهم أن يفعلوه إذا دخلوا بيته صلى الله عليه وسلم.
7) جواز نكاحه – صلى الله عليه وسلم – بغير ولي ولا شهود ولا مهر، وأن تحل له المرأة بغير عقد من جملة ما اختص الله به نبيه – صلى الله عليه وسلم – ولا يجوز لغيره.
التفصيل:
أولا. تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لم ينكح كل من وهبته نفسها، ولم يكن بدعا من الأنبياء في تسريه:
قبل أن نفصل الحديث عن هذا يجدر بنا أن نوضح معنى هذه الكلمة “التسري” لغة واصطلاحا:
التسري في اللغة: اتخاذ السرية، يقال: تسرى الرجل جاريته، وتسرى بها واستسرها: إذا اتخذها سرية، وهي الأمة المملوكة يتخذها سيدها للجماع، والتسري من السرور؛ وسميت الجارية سرية لأنها موضع سرور الرجل، ولأنه يجعلها في حالة تسرها من دون سائر جواريه، وقيل: من السر بمعنى الإخفاء؛ لأن الرجال كثيرا ما كانوا يتخذون السرارى سرا ويخفونهن عن زوجاتهم الحرائر، والتسرى في الاصطلاح لا يختلف عن معناه اللغوى.
والتـسـرى جـائـز في الإسـلام، بالكــتـاب والسنــة والإجمـاع، إذا تمت شـروطـه، يـقـول عـز وجـل: )والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6)( (المؤمنون)، وقد تسرى النبي – صلى الله عليه وسلم – وكذلك اتخذ الصحابة السراري.
وليس معنى هذا أن الإسلام هو الذي ابتدع هذا النظام؛ فقد كان معروفا في كل الأمم قبل الإسلام، وعرفته الأديان الأخرى قبل الإسلام، وقد ورد أن إبراهيم – عليه السلام – تسرى بهاجر التي وهبه إياها ملك مصر، فولدت له إسماعيل – عليه السلام – وقيل: كان لسليمان – عليه السلام – ثلاثمائة سرية، وقد عرف العرب الجاهليون التسري أيضا[1].
أما عن تسري النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد ورد أنه – صلى الله عليه وسلم – تسرى بأربعة من النساء:
الأولى: مارية القبطية بنت شمعون، وقد أهداها المقوقس للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأختها سيرين، فأعطى النبي – صلى الله عليه وسلم – سيرين لحسان بن ثابت، وولدت مارية إبراهيم للنبي – صلى الله عليه وسلم – في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة
والثانية: ريحانة وقيل اسمها ربيحة بنت شمغون – بالشين والغين – بن زيد بن عمرو بن قنافة من بني النضير، وذكر ابن سعد عن الواقدي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سباها أرسلها إلى بيت أم المنذر بن قيس، فدخل عليها، فاختبأت حياء منه، فدعاها وخيرها، فاختارت رسول الله، فلم تزل عنده حتى ماتت.
والثالثة: نفيسة، يقال: إنها كانت جارية لزينب بنت جحش، وهبتها للنبي – صلى الله عليه وسلم – لما رضي عنها بعد هجرها.
والرابعة: أمة لا يعرف اسمها[2].
فلم يعاب على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه اتخذ السراري، والتوراة نفسها تذكر أن أنبياء بني إسرائيل اتخذوهن؟
وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – اتخذ السراري كغيره من الأنبياء فإنه لم ينكح كل من وهبته نفسها – كما يزعم مثيرو هذه الشبهة – ويجدر بنا قبل أن نفصل الحديث عن هذه الخصيصة من خصائص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نوضح معنى (الهبة أو الوهب)، وذلك على النحو التالي:
الوهب: انتقال ملكية بلا مقابل، نقول: وهبك فلان كذا، أي: أعطاه لك بلا مقابل، ليس بيعا وليس بدلا. وشرط الهبة أن تكون من امرأة مؤمنة، قال الشعراوي: “قال: )وامرأة مؤمنة( (الأحزاب: 50)؛ لأن الهبة هنا خاصة بالمؤمنة، فإن كانت كتابية فلا يصح أن تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.
لكن أتحل له المرأة بمجرد أن تهب نفسها؟ قالوا: لا، إنما لا بد من القبول، فإن قالت المرأة لرسول الله: أنا وهبت نفسي لك، لا بد من أن يقبل هو هذه الهبة؛ لذلك علق الله على هذه المسألة بقوله: )إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها( (الأحزاب: ٥٠)؛ لأن المسألة مبنية على إيجاب وقبول” [3].
ولقد اختلف العلماء في مسألة هبة النساء أنفسهن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هل كان عنده نساء موهوبات أم لا؟
ذهب بعضهم إلى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذ امرأة بهبة قط، مستندين إلى ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: لم تكن عند رسول الله امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد.
وذهب آخرون إلى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت عنده موهوبات، وقد رجح القرطبي ما ذهب إليه هؤلاء قائلا: “والذي في الصحيحين يقوي هذا القول ويعضده؛ روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: «كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأقول: أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله تعالى: )ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء( (الأحزاب: ٥١)، فقلت: والله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» [4].
وعن عـائشـة أنها قـالت: «كـانت خـولـة بنت حـكـيـم من اللائي وهبن أنفـسـهن لـرسـول الله صلى الله عليه وسلم» [5]. فـدل هـذا على أنهـن كن غـير واحـدة. والله تعـالى أعـلم، قال الزمخشـري: وقيـل الـواهبات أربع: ميمـونة بنت الحـارث، وزينب بنت خـزيمة – أم المساكين – الأنصارية، وأم شريك بنت جـابرة، وخولة بنت حـكـيـم” [6].
ولعل مما يؤكد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يقبل كل من تهبه نفسها ما رواه الأئمة من طريق سهل بن سعد: «جاءت امرأة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي، قال: فنظر إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: “وهل عندك من شيء”، قال: لا والله يا رسول الله، فقال: “اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا”، فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انظر ولو خاتما من حديد”، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري، قال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء”، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موليا فأمر به فدعي، فلما جاء قال: “ماذا معك من القرآن”؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، عددها، فقال: “تقرؤهن عن ظهر قلبك”؟ قال: نعم، قال: “اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن» [7].
فهل يصح أو يعقل بعد هذا أن يزعم زاعم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان ينكح كل من وهبته نفسها من غير حساب في العدد. وقد وجد من العلماء من نص على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن عنده من النساء الواهبات أنفسهن له واحدة؟!
ثانيا. لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – بدعا من الرسل في تعدد الزوجات:
لا بد أن نقرر أن الأديان السماوية قبل إبراهيم – عليه السلام – ليس لها كتب معروفة تؤخذ منها تشريعات الأسرة، والذي حكاه القرآن الكريم عنها هو المرجع الصادق لها وإلى جانبه النصوص الدينية الأخرى، وكتب التاريخ، ولا يوجد في هذه المصادر ما يدل على أن التعدد كان ممنوعا في هذه الأديان، ويهمنا أن نعرف ما جاء في الديانتين الكبيرتين اللتين نزلت بهما الكتب السماوية بعد إبراهيم – عليه السلام – وهما اليهودية والنصرانية.
وإن كان الاستدلال بما في التوراة والإنجيل الموجودين الآن غير معتبر؛ وذلك لتحريفهما بشهادة القرآن الكريم إلا إننا سنحكي ما ورد فيهما خاصا بالتعدد، مع العلم بأن القرآن نزل مهيمنا عليهما في أخبارهما ومضامينهما التشريعية خاصة.
وإبراهيم عليه السلام – وهو قبل التوراة والإنجيل كما ورد فيهما وفي القرآن الكريم – كان متزوجا من سارة، ولما لم يرزق منها بذرية، تزوج هاجر المصرية التي أهديت لسارة، فرزق منها بإسماعيل، ثم رزق من سارة بإسحاق، فهو قد جمع بين اثنتين في عصمته، بصرف النظر عن كون إحداهما وهي سارة زوجة، والأخرى هاجر سرية على الخلاف في ذلك[8].
وقد كانت له أيضا سراري كثيرة، والدليل على ذلك ما ورد في التوراة: “وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه شرقا إلى أرض المشرق وهو بعد حي”. (التكوين 25: 6)[9].
وجاء في التوراة أيضا أن إسحاق بن إبراهيم – عليهما السلام – ولد له اثنان، هما: عيصو، ويعقوب – عليه السلام – وأن عيصو جمع بين خمس زوجات، هن: يهوديت، بسمة، محلة، عدا، أهوليانة، وأن يعقوب جمع بين أربع زوجات هن: ليئة، راحيل شقيقتها، بلهة، زلفة، وهذا التشريع كان في صحف إبراهيم – عليه السلام – قبل نزول التوراة على موسى – عليه السلام – وكان من عادتهم أن الزوجة تسمح لزوجها بمعاشرة الجواري وتلحق أولاده منهن بها، وهذه العادة كانت شائعة في الزمن القديم عند إسبرطة اليونانية.
التعدد في اليهودية:
اليهودية دين اليهود الذي نزلت به التوراة على موسى بعد إبراهيم – عليهما السلام – والتوراة الحقيقية غيرت وحرفت، ومهما يكن من شيء فإنه يؤخذ مما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ولقد أكدت كتب اليهود أن مبدأ التعدد مقرر عندهم، وكان تقرير هذا المبدأ امتدادا لتقريره لديهم في شريعة إبراهيم – عليه السلام – ومن بعده، حتى جاء موسى. فداود جمع بين تسع زوجات أولا، ثم وصلن إلى تسع وتسعين كما قالوا[10].
وكذلك تذكر التوراة المحرفة أن سليمان كان يحب النساء، حتى فتن بهن، وغضب الله عليه، وفيها أيضا أنه كان له سبعمائة سيدة، وثلثمائة سرية، وعن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل[11]، والذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» [12].
واختلفت الروايات في عدد نساء سيدنا سليمان – عليه السلام – فقيل: ستون أو سبعون أو تسعون أو مائة – وتحقيق العدد في شرح الزرقاني على المواهب ولا يهمنا العدد فالثابت أنه كان في عصمته أكثر من زوجة.
وجاء في كتبهم أيضا أن “رحيمان” جمع بين ثماني عشرة زوجة، وأن “بهو باراع” الكاهن جمع بين زوجتين وأن “إيبا” ملك يهوذا جمع بين أربع عشرة زوجة.
ولقد ظل التعدد جائزا عند اليهود، ولم يحرمه إلا مجمع “وورمز” الرباني الشهير، الذي عقد في بداية القرن الحادي عشر الميلادي، وإن كان بعض طوائفهم ما زالت تمارسه، أسوة بأنبياء بني إسرائيل.
التعدد في المسيحية:
لقد جاء الإنجيل مكملا للتوراة، ورسالة عيسى – عليه السلام – مكملة لرسالة موسى – عليه السلام – بتقرير ما كان صالحا منها لتطور العصر وظروف البيئة، ومصححا ما لحقها من تحريف أو خطأ، يقول عيسى عليه السلام: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأكمل”. (متى 5: 17). وقال سبحانه وتعالى: )وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6)( (الصف).
وبهذا نقول: إن عيسى – عليه السلام – لم يحرم تعدد الزوجات، ولم نجد في الإنجيل الصحيح نصا صريحا في التحريم[13].
وقد جاء في إنجيل متى مثل مضروب للملكوت الأعلى على لسان المسيح يدل على أن الجمع بين خمس زوجات جائز، بل الجمع بين عشر كذلك جائز؛ حيث قال ما مؤداه: “إن عشر عذارى كن ينتظرن عريسا ليلا، وكان منهن خمس حكيمات أخذن القناديل واحتياطيا من الزيت، وخمس أخريات أخذن القناديل فقط… إلى أن قال: وذهبت هؤلاء الحكيمات الخمس إلى العريس، ودخل بهن منزلا وأغلقه، ولم يدخل الأخريات لعدم حيطتهن، ولوأنهن اشترين زيتا احتياطيا لدخل العريس بالعشرة”.
هذه هي العبارة المنسوبة إليه، ولو كان التعدد حراما ما ضرب المسيح مثلا للسعادة في ملكوت السماء بشيء محرم[14].
وفي الإنجيل أنه كان للمسيح أربعة إخوة هم: يعقوب، ويوسي، ويهوذا، وسمعان: “أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ههنا عندنا”؟ (مرقس 6: 3)، واتفق النصارى على أن مريم أتت بالمسيح بغير زرع بشر، وإذا كان هذا حاله، فهل هؤلاء الأربعة على الحقيقة إخوة أم على المجاز؟
اختلفوا؛ لأن متى قال عن يوسف النجار: “ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع”. (متى 1: 25)، فيكون قد عرفها بعد ولادته، وإن منهم لفريقا يقولون: “إنها ظلت عذراء إلى أن ماتت، وإن الأربعة أولاد ليوسف من زوجة سابقة له على مريم”. وعلى أية حال فإن غرضنا هو إثبات تعدد الزوجات بإخوة المسيح الأربعة، وفي تفاسير الإنجيل أنه كان له أختان أيضا هما أستير وثامار[15].
“وهكذا نجد أن تعدد الزوجات لم يكن من صنع الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم”، وإنما هو تشريع قديم عرفته كل الحضارات والأديان وفي مقدمتها اليهودية، وأقرته المسيحية، إلا في حالة واحدة هي حالة الأسقف؛ حيث لا يستطيع الرهبنة مع تعدد الزوجات، فليكتف بزوجة واحدة، والقوانين الوضعية هي التي حرمت التعدد في العالم المسيحي.
يقول الأستاذ محمد فؤاد الهاشمي (العالم الذي كان مسيحيا ثم أسلم): “إن اعتراف المسيحية بتعدد الزوجات بقي إلى القرن السابع عشر”، وظل آباء الكنيسة في الغرب يبيحون تعدد الزوجات ويعترفون بأبناء الملوك الشرعيين من أزواج متعددات باعتراف وستر مارك wester mark، وبعرض من العالم القانوني جرتيوس Grotius[16]، وهكذا نجد أن تعدد الزوجات والسراري كان مباحا في كتب التوراة والإنجيل التي يقدسها المبشرون والمستشرقون لأنبيائهم، فكيف اعتبروه نقيصة ومطعنا لسيد البشر وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم؟!
ومن قبل طعن أسلافهم اليهود في النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب هذا، فرد عليهم القرآن أبلغ رد، وذكرهم بأن التعدد سنة من سنن الأنبياء والمرسلين الذين كانوا قبله، روي أن اليهود عيرت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء، والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى في الرد عليهم قوله: )ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب (38)( (الرعد). فقد ألقمهم هذا الرد حجرا، فباءوا بالخزي والبهتان[17].
ونخلص من هذا كله إلى أن تعدد الزوجات سنة من سنن الأنبياء؛ وأن ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن بدعا من الأنبياء السابقين فلقد تزوج إبراهيم، وإسحاق، وداود، وسليمان.. وغيرهم بأكثر من زوجة، فلماذا توجه حملات الطعن والتشكيك في أخلاقه – صلى الله عليه وسلم – بتعدد الزوجات دون غيره من الأنبياء؟
ثالثا. لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما أمر المسلمين بألا يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات إلا مبلغا عن ربه:
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا ينطق عن الهوى، كما قال سبحانه وتعالى: )وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)( (النجم)، فهو لا ينطق في تشريعاته جميعها – ومنها بالطبع تشريعه عدم زيادة الزوجات عن أربع – عن هواه، إنما هو بوحي من الله عز وجل.
وثمة أحاديث كثيرة ينهى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه عن أن يجمعوا بين أكثر من أربع زوجات، ويأمرهم بأن يمسكوا أربعا فقط ويفارقوا الأخريات. ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة: «أمسك أربعا، وفارق سائرهن» [18]. وقوله – صلى الله عليه وسلم – للحارث بن قيس، عندما أسلم وعنده ثمان نسوة. «اختر منهن أربعا» [19] [20].
لقد استدل مثيرو الشبهة بهذه الأحاديث التي يأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – فيها أصحابه بألا يزيدوا على أربع زوجات، في مقابل ما شاع عنه – صلى الله عليه وسلم – من أنه تزوج أكثر من أربع زوجات – على أنه كان مزواجا محبا للنساء، والذي أوقعهم في هذا الزعم الخاطئ جهلهم بخصيصة من الخصائص التي اختصه الله – عز وجل – بها دون من عداه من أفراد أمته، وهذه الخصيصة هي: (زواجه بأكثر من أربع نسوة).
لقد أرسل الله – عز وجل – نبيه ليبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولما أرسل كان التعدد موجودا عند العرب، وثابتا حتى عند الأنبياء السابقين، لكن الله – عز وجل – أراد أن يحدد هذا التعدد تحديدا يمتص الزائد من النساء، ولا يجعله مباحا في كل عدد، فأمر رسوله أن يقول لأمته: من كان عنده أكثر من أربع فليمسك أربعا، ويفارق من زاد عنهن، في حين كان عنده – صلى الله عليه وسلم – تسع زوجات.
فلو أن الحكم شمله، فأمسك أربعا، وسرح خمسا لأصابهن ضرر كبير، ولصرن معلقات؛ لأنهن زوجات رسول الله وأمهات المؤمنين، وليس لأحد أن يتزوج إحداهن بعد رسول الله.
ولهذا نجد الله – عز وجل – يأمره أن يبقي على زوجاته كلهن (وكن تسعا)، يقول سبحانه وتعالى: )يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن( (الأحزاب: ٥٠)، كما أمره أن يقتصر عليهن بذاوتهن، بحيث لو ماتت إحداهن أو طلقت فليس له أن يتزوج بغيرها؛ لأن الله خاطبه بقوله: )لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن( (الأحزاب: ٥٢).
فلم يستثن النبي في العدد، ولكنه استثني في المعدود؛ حيث وقف عند هؤلاء التسع بذواتهن، وليس له أن يتزوج بغيرهن أو أن يستبدلهن بأخريات، أما غيره من أمته فله أن يتزوج ضعف أو أضعاف هذا العدد، شريطة ألا يزيد عن أربع في وقت واحد[21].
إنه ربما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – من أقل الناس حظا في التعدد؛ لأن قصر عدد زوجاته على رقم معين حدده له الشرع، لا يتجاوزه؛ إذ لا تحل له النساء من بعد ولا أن يبدل بهن من أزواج يجعل في إمكان أي مسلم أن يعدد أكثر منه، على الرغم من وجوب اقتصار المسلم العادي على أربع زوجات؛ وذلك أنه يستطيع تطليقهن جميعا أو بعضهن والبناء بزوجات جديدات دون حد.
رابعا. كان اختيار النبي – صلى الله عليه وسلم – زوجاته على أسس دينية وحكم إنسانية ومقاصد تعليمية مأمور بها من قبل الله عز وجل، ولم يحد – صلى الله عليه وسلم – عن هذه الأسس مرة واحدة:
لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – كامل الحرية في التزوج بمن يشاء، بل كان زواجه بأمر من ربه[22]. ويمكن تقسيم الحكم وراء تعدد زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قسمين: حكم عامة، وحكم خاصة بكل زوجة من زوجاته، وفيما يأتي نفصل هذين القسمين:
1. الحكم العامة:
· تبليغ الأحكام الخفية الخاصة بالحياة الزوجية، والتي لا يطلع عليها إلا الزوجان غالبا، ومعرفة السياسة الخاصة بالمنزل، والمعاشرة الزوجية لها منزلتها في الحياة الاجتماعية، وقد يصعب على واحدة أو قلة من الزوجات القيام بهذا التبليغ كما ينبغي، وذلك لكثرة الأسئلة عن هذه الأحوال الخاصة؛ وكان لأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – باع طويل في رواية الأحاديث وتبليغ الأحكام بوجه عام، وعلى رأسهن السيدة عائشة، التي روت من الأحاديث قرابة ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، وتلقاها عنها كثير من الصحابة والتابعين، وكذلك روت السيدة حفصة ستين حديثا.
· الاستعانة بهن في شرح الغوامض التي كانت ترد في إجابة النبي – صلى الله عليه وسلم – على أسئلة النساء، وفيما يستحيا من ذكره، كشرح عائشة للمرأة كيفية التطهر بغسل الحيض الذي كنى عنه النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يفصح، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – على حياء كبير اضطره أحيانا أن يكني عن الأعضاء الخفية وما يتصل بها.
· إظهار معجزة أو منقبة للرسول – صلى الله عليه وسلم – كانت كامنة، ولولا هذا العدد من الزوجات ما برزت للناس، وذلك بزيادة أعباء التكاليف عليه، إذ كيف تظهر قوة الرسول في القيام بواجبهن جميعا مع تقشفه وكثرة صيامه وطول قيامه ومشاق جهاده؟ الأمر الذي جعل الصحابة يتحدثون عنه بأنه أعطي قوة ثلاثين أو أربعين من الرجال، إنها طاقة لا تكون إلا للموهوبين أو المصطفين من الناس.
· تحقيق صدقه في دعوته وتبرئته من تهمة الناس له بالسحر والكهانة وما إليهما؛ إذ كيف يعرف أنه ليس كذلك، وربما مارس بعض هذه الأعمال كالاتصال بالجن مثلا خفية، حيث لا يكون غالبا إلا سرا، ولكن اطلاع الزوجات على أحواله الداخلية، وهن جمع يؤمن معه تواطؤهن على ستر العيوب، ولا يتصور اتفاقهن على ممالأته في ادعاءاته إن كانت باطلة.
· رفع درجات النبي – صلى الله عليه وسلم – بزيادة أعباء التكاليف في القيام بواجبهن، وما أشقه وأدقه وأهمه!! لقد كان الوحي يلاحقه وهو مضطجع مع بعض نسائه، كما جاء عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل على الوحي، وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها» [23].
· إظهار أخلاقه الشريفة المستنيرة ومحاسنه الباطنة، التي لا تعرف إلا في ظل الحياة الزوجية بشكل واسع، يدل على ذلك أنه تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكان أبوها كافرا محاربا للرسول إذ ذاك، وتزوج صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قتل أباها وعمها وزوجها، فلو لم تطلعا من بواطن أحواله على أنه أكمل الأزواج لكانت الطباع البشرية تقضي بالنفور عنه، والميل إلى الآباء والأقارب، وقد صح ذلك عند البخاري ومسلم.
· تأليف العرب بالمصاهرة، ليخفف ذلك من حدة عنادهم للرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد كان لهذا الإصهار أثره في مثل قول أبي سفيان، عنـدما سمـع أن النـبي – صلى الله عـليه وسـلم – تزوج ابنته: “هـو الفحـل لا يقـدع أنفـه”، ذكـره ابـن سعـد وغـيره[24].
في مثل اختيار صفية له – صلى الله عليه وسلم – عندما خيرها بين المقام معه والرجوع إلى أهلها وكان لهذا أثره في تخفيف الحدة بين الرسول واليهود بعد ذلك.
وكذلك في مثل جويرية بنت الحارث المصطلقية التي اختارت الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندما جاء أبوها يفتديها منه، وكان قد أخفى بعيرين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “وأين البعيران اللذان بالعقيق في شعب كذا وكذا”؟ فأسلم، وأسلم معه ولداه وناس من قومه، كما روته كتب السيرة[25].
2. الحكم الخاصة:
لم يخل زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – من أية زوجة من زوجاته – من لدن خديجة وحتى آخر زوجاته – من حكم تشريعية وتعليمية وإنسانية، وفيما يلي نفصل هذه الحكم تبعا لزوجاته، واحدة تلو الأخرى:
· خديجة بنت خويلد: أولى زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد تزوج خديجة وهي تكبره بخمسة عشر عاما، تزوجها – صلى الله عليه وسلم – بعد عودته من رحلة الشام 595م بشهرين، وقد كانت تلقب بسيدة قريش، وبالطاهرة. وقد تزوجها ثيبا؛ تزوجها قبله عتيق بن عائذ بن عبد الله بن مخزوم، ثم مات، فتزوجها بعده أبو هالة، وقد ولدت لعتيق هندا، ولأبي هالة هندا وهالة، وهي أول من آمن من النساء بدعوة الحق.
وكانت – رضي الله عنها – ذات شرف وسؤدد، فضلا عن غناها… قد آثرت تربية أولادها على الزواج إلى أن صادفت النبي – صلى الله عليه وسلم – فأرسلت إليه تعرض عليه الزواج فقبل. وأنجبت له – صلى الله عليه وسلم – البنين والبنات: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. ولقد آزرت النبي – صلى الله عليه وسلم – في دعوته مؤازرة عظيمة بمالها ونفسها. وقد قضت في الحصار (شعب أبي طالب) ثلاث سنين، وهي الغنية الموسرة – رضي الله عنها – وعمرها يومئذ ثلاث وستون سنة. توفيت – رضي الله عنها – قبل الهجرة بثلاث سنين.
وكان السبب الرئيسي في زواجه – صلى الله عليه وسلم – من خديجة البحث عن الاستقرار والأمان في الحياة الزوجية؛ وقد أمضى – صلى الله عليه وسلم – معها فترة مديدة، ولم يتزوج غيرها وظل مخلصا لها في هذه الفترة حتى وصل الخمسين من عمره، وهي الفترة التي يكون الرجل قادرا على تعدد الزوجات، ولكنه لم يتزوج غيرها، وظل لها وحدها خمسة وعشرين عاما رغم أن من العادات والتقاليد العربية في كل القبائل تعدد الزوجات، ورغم ذلك فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يجار عادات العرب بتعدد الزوجات، واقتصر على زوجة واحدة فقط لمدة ربع قرن[26].
· سودة بنت زمعة: ولم تكن الزوجة الثانية أفضل من سابقتها، من حيث الحسب، والجمال، لكنها زادت عليها بالفقر الشديد؛ حيث هاجرت إلى الحبشة مع زوجها السكران بن عمرو وفي العودة توفـي السكران وأصبحت سودة بلا عائل، فتزوجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – رحمة بها من مآسي الدهر، ولتكن راعية لأولاده الذين ماتت عنهم أمهم، وكان زواجه بها أيضا تشريفا لها ولقومها؛ لأن أخوالها من بني النجار، وهو يتألف بها بني عبد شمس، كما خاف عليها أن يفتنها قومها إذا رجعت إليهم بعد موت زوجها[27].
· عائشة بنت أبي بكر: تزوجها الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى يقوي الرابطة بينه وبين أبيها أبي بكر الذي كان أول الناس دخولا في الإسلام.
وقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – بكرا، ولم يتزوج بكرا غيرها. نزلت آيات كثيرة من القرآن بسببها مثل آيات الإفك والتيمم.
وكانت – رضي الله عنها – من كبار المحدثين وأغزرهم رواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانفردت برواية أحاديث عنه – صلى الله عليه وسلم – لم يروها عنه غيرها، فكانت أكثر النساء رواية للحديث، وقد بلغ ما روته عن النبي – صلى الله عليه وسلم – 2210 أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على 174 حديثا ويرجع لها الفضل في نقل كثير من السنة المطهرة، وبخاصة التي تتعلق بشئون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخاصة في بيته رجلا وزوجا وإنسانا.
“وتجدر الإشارة إلى أن زواج الرسول – صلى الله عليه وسلم – بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عاما ليس بدعا ولا غريبا؛ لأن هذا الأمر كان مألوفا في ذلك المجتمع، لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب على محمد – صلى الله عليه وسلم – جعلوا من هذا الزواج اتهاما للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه رجل شهواني، غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعا في ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات” [28].
· حفصة بنت عمر: فقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – إكراما لأبيها عمر بن الخطاب، على الرغم من عدم وجود ما يغري على زواجها، فإنه بعد موت زوجها خنيس بن حذافة السهمي عقب غزوة بدر عرضها أبوها على أبي بكر، وعثمان، عقب وفاة زوجته رقية بنت النبي – صلى الله عليه وسلم – فلم يجيباه. وكان ترملها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يحزنه أن يرى جمال ابنته، وحيويتها تخبو يوما بعد يوم.. ويذهب إلى رسول الله يشكو له رفض أبي بكر وعثمان بعدما ضاقت به الأرض بما رحبت، وضاقت به نفسه، فيرد عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «تزوج حفصة خير من عثمان، ويزوج عثمان خيرا من حفصة» [29]. وأدركها عمر – رضي الله عنه – بفطرته؛ إذ معنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول – صلى الله عليه وسلم – وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول – صلى الله عليه وسلم – وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة، وارتياح القلب؛ لأن الله قد فرج كرب ابنته[30].
· أم سلمة: تزوجها في السنة الرابعة للهجرة بعد موت زوجها عقب غزوة أحد، وكان زواجه بها مكافأة لها على ما لقيته من الشدة عند إسلامها وعند هجرتها، فقد كانت أول مهاجرة للحبشة، وأول ظعينة للمدينة، انتزعها أهلها من زوجها عند هجرته، ثم لحقت به بعد ذلك، وكان لها أولاد من أبي سلمة، اعتذرت بسببهم عن الزواج عندما عرض عليها ذلك أبو بكر وعمر، كما اعتذرت في بادئ الأمر للنبي – صلى الله عليه وسلم – عندما خطبها، فكان زواجه بها عزاء لها، وتكريما لجهادها، وحماية لأولادها.
· زينب بنت جحش: إن الزوجات الأربع السابقات لا يحتجن إلى تعليل لتعددهن، فهن في حيز العدد المسموح به، ومن جاء بعدهن يحتاج زواجهن إلى تعليل، وأولاهن زينب بنت جحش وقد تزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن طلقها زوجها مولاه زيد بن حارثة، وذلك لإبطال عادة التبني، الذي كان يمنع تزوج الرجل بمطلقة ابنه المتبنى، كما كان في زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – بها رد اعتبار لها، ومكافأة لها على رضاها بحكم الله ورسوله في الزواج من مولى وهي شريفة قرشية؛ لأنها بنت أميمة عمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكانت هي موضع التجربة في إزالة العصبية الجاهلية في نظرتهم لكفاءة النكاح، إذ رأى أن تجربة الإلغاء تكون فيمن يمكنه أن يتزوجها قبل زيد إذا أراد، ثم إنه قد استفاض عنها بعد طلاقها من زيد أنها أتعبته، ولهذا لم يجرؤ أحد على زواجها بعده، فتزوجها النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن الملفت للنظر أن زيدا مطلقها هو الذي كلفه النبي – صلى الله عليه وسلم – بخطبتها له، فالموضع كله تخطيط للتشريع، لا لشهوة أو دنيا، ولهذا فإن الله – عز وجل – هو الذي زوجها للنبي – صلى الله عليه وسلم – بدون ولي عنها، قال سبحانه وتعالى: )فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا (37)( (الأحزاب)، وكون الله – عز وجل – هو الذي زوجها له دليل على إباحة تجاوز العدد عن أربع زوجات له – صلى الله عليه وسلم – خاصة[31].
· جويرية بنت الحارث: كانت أسيرة في غزوة بني المصطلق ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، فكاتبها على تسع أواق من الذهب ليعتقها، فدفعها النبي – صلى الله عليه وسلم – وأعتقت وتزوجها، وكان عتقها سببا في أن أهل مائة بيت من بني المصطلق أعتقوا، إكراما لعتق النبي – صلى الله عليه وسلم – لها وزواجه بها، فليس من اللائق أن يكون أصهار النبي – صلى الله عليه وسلم – أرقاء، وقد رأى الصحابة ذلك دون ضغط عليهم، تقول عائشة: «ما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق» [32].
وهكذا كان هذا الزواج تأليفا لبني المصطلق، بعد عداوتهم الشديدة للنبي صلى الله عليه وسلم.
· أم حبيبة: هي رملة بنت أبي سفيان الذي ناصب النبي – صلى الله عليه وسلم – العداء طويلا، تزوجها رحمة بها، حيث تنصر زوجها عبيد الله بن جحش بالحبشة، وأصبحت وحيدة وأبوها وإخوتها مشركون، فكان من الإنصاف والرحمة والحماية من الفتنة أن يضمها النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه؛ فضمها – صلى الله عليه وسلم – وهي ما تزال بالحبشة، كما أن فيه تأليفا لأبي سفيان، فقد حمد للنبي – صلى الله عليه وسلم – فعله، ولم يتألم حين علم بزواجه منها، بل قال فيه: “هو الفحل لا يقدع أنفه” [33].
· صفية: تزوجت في بيت ابن أبي الحقيق، وهو بيت مشهود له في خيبر، وكان زواجها فيه من كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، عاشت معه قدر ما عاشت إلى أن غزا المسلمون خيبر، وإذا بها تخبر زوجها ذات صباح أنها قد رأت فيما يرى النائم أن قمرا قد وقع في حجرها، وطلبت منه أن يعبر لها رؤياها، فقال لها مغضبا: تتمنين ملك يثرب؟ ولطمها لطمة شديدة أثرت في إحدى عينيها، ولقد بقي هذا الأثر في عينها إلى أن وقعت أسيرة في يد المسلمين.
وظلت صفية مع الأسرى لا يعرف أحد ما شأنها، حتى هم القوم بالرحيل، وقد وقعت في سهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الغنائم، فنظر النبي – صلى الله عليه وسلم – في شأنها، فوجدها من علية القوم، وقد وقعت أسيرة، وهي مكلومة[34] بفقد أبيها وفقد زوجها، وفقد بعض أقربائها، فتحركت النخوة في نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي نخوة عالية كما هي عادته في مواقفه، فرأى أن يرحم عزيزة قوم ذلت بالأسر، وحزنت لفراق أبيها، فما كان من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن أعتقها ثم تزوجها.
وهذا عمل قد حظي بإعجاب الكتاب والمؤرخين من المسلمين ومن اليهود على السواء.
وبهذا الحماس نفسه أظهر الكثيرون من المنصفين رأيهم على هذا النحو، وأبانوا عن إعجابهم بفعل النبي – صلى الله عليه وسلم – واتخاذه هذا الموقف من صفية، مع علمه الأكيد بخلائق اليهود التي لا يؤتمنون معها على شيء.
يتبع في الجزء الاسفل