الشّبهة : الأعرابي وقوله تعالى { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم }:
في تفسير ابن كثير:
" يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ } أي: فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ } قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني. يعني: لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [آل عمران:52] أي: عن أمره وقدره ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.
وقوله: { وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: { لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }.
وقد ذكر جماعة منهم: الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عنالعُتْبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ من دُفنَت بالقاع أعظُمُه ... فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عُتْبى، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له ". (تفسير ابن كثير).
الجواب:
أولا:حكاية الأعرابيّ الذي جاء إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الحكايات الكثيرة التي تُحكى بغير إسناد يستأنس به.
وأبو نصر ابن الصبّاغ الذي نقل عنه ابن كثير توفّي سنة 477هـ، وبين وفاته ووفاة العتبيّ (ت228هـ) أكثر من 249 سنة، وقد روى عنه بغير إسناد !!!.
ثانيا: العتبيّ الذي تُروى عنه هذه القصّة بألفاظ مضطربة متناقضة، ومثل هذا الاضطراب يجعلنا نجزم بكذب هذه الرّواية، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّها حكاية بغير إسناد يستأنس به، زادها ذلك وهنا على وهن.
ثالثا:حكاية ابن كثير للقصّة لا يدلّ على قبوله لها، فقد حكى كثيرا من الإسرائيليات في تفسيره، أنكرها عليه أهل العلم المتخصّصون، وهناك كتب كاملة ألّفت في تمييز ما في تفسير ابن كثير من صحيح وضعيف.
ولو فرضنا صحّتها فلا حجّة فيها؛ فهي تحكي فعلا فعله أعرابيّ ربّما يكون من أجهل النّاس بمدلولات كتاب الله جلّ وعلا.
وهنا قد يقول قائل: ولكن إذا سلّمنا بصحّتها فإنّنا سنسلّم برؤية العتبيّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) في المنام يطلب منه إخبار ذلك الأعرابيّ بتوبة الله عليه، ورؤيا النبيّ (صلى الله عليه وآله) حقّ، لأنّ الشّيطان لا يتمثّل به.
والجواب أنّ الشّيطان لا يتمثّل بصورة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) الحقيقية، ولكنّه قد يتمثّل بصورة أخرى ويكذب على الرّائي، ويقول له أنا رسول الله، افعل كذا، أو أخبر فلانا كذا، وقد حدث هذا كثير من المتصوّفة، فأضلّهم وأضلّ بهم.
كما أنّ ألفاظ هذه القصّة المروية عن العتبيّ تدلّ دلالة واضحة على اختلاقها، لما فيها من تكلّف في حبكها، وهذه العبارة وحدها تكفي للشكّ في كونها من وضع المتصوّفة الذين يبنون دينهم على المنامات، يقول: ثُمَّ اِنْصَرَفَ الْأَعْرَابِيّ فَغَلَبَتْنِي عَيْنِي فَرَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فِي النَّوْم فَقَال: "يَا عُتْبِيّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لَه".
كما أنّنا لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه القصّة رويت عن العتبيّ بألفاظ متعدّدة، يفضح بعضها بعضا، منها أنّ الأعرابيّ الذي جاء إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعد أيام من دفنه، مع أنّ العتبيّ توفّي بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) بـ 217 سنة!!!.
***