دعوى أن ابن عباس سرق مالا، وأغلظ القول للسيدة عائشة
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المشككين في عدالة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ ويستدلون على طعنهم هذا بأنه أخذ مال البصرة من غير إذن علي – رضي الله عنه – وقد حثه علي أن يتقي الله فلم ينصت لكلامه، كما أنه أغلظ القول في مناظرته للسيدة عائشة رضي الله عنها قائلا: «وما أنت إلا حشية من تسع حشايات خلفهن بعده…» إلخ؛ أي: رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وذلك لهوى في نفسه وكراهية منه للسيدة عائشة رضي الله عنها. ويتساءلون: كيف يقبل ما روي عنه، وقد أخذ ما ليس من حقه، وتجرأ على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟! رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس – رضي الله عنه – ومن ثم هدم جزء كبير من السنة النبوية.
وجها إبطال الشبهة:
1) الصحابي الجليل عبد الله بن عباس أرفع من أن يفترى عليه بالسرقة، فتلك الرواية مكذوبة لا تصح، ويؤيد بطلانها كثرة الأخبار الصحيحة التي تثبت ورعه وخوفه الدائم من الله – عز وجل – وتتعارض مع هذا الخبر المكذوب، وكذلك ما ورد من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – له أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل.
2) إن الرواية التي تقول: إن ابن عباس أغلظ القول للسيدة عائشة رضي الله عنها باطلة لا تصح؛ لأن عمدة إسنادها هو أبو مخنف لوط بن يحيى الشيعي الذي أجمع النقاد على تضعيفه وتركه، هذا فضلا عن العلاقة الطيبة بين ابن عباس والسيدة عائشة رضي الله عنهم.
التفصيل:
أولا. رواية سرقة ابن عباس مال البصرة رواية مكذوبة لا تصح:
لقد اعتمد هؤلاء المدعون في اتهام ابن عباس – رضي الله عنه – بسرقة مال البصرة على رواية مكذوبة وردت في كتاب “نهج البلاغة”([1]) المنسوب لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقد روي فيه دون إسناد أن عليا لما سرق ابن عباس مال البصرة كتب إليه في ذلك كتابا شديدا قال فيه: أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب([2])، والعدد قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت([3])، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت لابن عمك ظهر المجن([4])، ففارقته مع المفارقين وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل([5]) دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله، غير متأثم من أخذه، كأنك – لا أبا لغيرك – حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب، كيف تسيغ طعاما وشرابا وأنت تعلم أنك تأكل حراما، وتشرب حراما، وتبتاع الإماء، وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد.
فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار، والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي، فضح رويدا ([6])، فكأنك قد بلغت المدى (ودفنت تحت الثرى)، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيع الرجعة، ولات حين مناص، والسلام ([7]).
فهذا الكتاب تصريح من علي بن أبي طالب بأن ابن عباس – رضي الله عنه – كان يعلم أن ذلك المال الذي أخذه حرام، وهذا جرح محقق لو كان كل ما روي صدق، وكل ما قيل قبل، ولكن الذي ظهر من أمانة ابن عباس وعدالته وتقواه، يقتضي أن تكون هذه الرواية غير صحيحة، فالمعلوم المشهور لا يعارض بالمظنون الشاذ، كيف وليس هذا في مرتبة الظن؟ وقد أطبق الصحابة والتابعون على جلالة ابن عباس وأمانته، والأخذ عنه، فلم يلتفت إلى ما شذ في هذه الرواية([8]).
وهذه الرواية مكذوبة لم ترد في أي من الكتب الموثوق في صحتها وسلامتها، وإنما نسبت إلى علي بن أبي طالب وهو منها براء؛ لأن ما في هذا الكتاب ليس من
أقواله – رضي الله عنه – وإنما هو من جمع الشريف المرتضي؛ إذ جمع فيه ألفاظا منسوبة للإمام علي، وقد نص على هذا الإمام الذهبي في سيره حيث ذكر في ترجمة الشريف المرتضي أنه ” هو جامع كتاب” نهج البلاغة ” المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي – رضي الله عنه – ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟! وقيل: بل جمعه أخوه الشريف الرضي”.
وقال أيضا: “وفي تواليفه سب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنعوذ بالله من علم لا ينفع”([9]).
وقال في ميزان الاعتدال عن الشريف المرتضي: وهو المتهم بوضع كتاب “نهج البلاغة”، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه “نهج البلاغة” جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه – ففيه السب الصراح، والحط على السيدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفيه من التناقض، والأشياء الركيكة، والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين – جزم بأن الكتاب أكثره باطل”([10]).
ومما يدل على بطلان نسبة هذا الكتاب إلى الإمام علي أمران ظاهران: النيل من أعراض سادات الصحابة الخلفاء الراشدين تصريحا وتعريضا، والسجع المتكلف الظاهر التوليد الذي تنبو عنه فصاحة الصحابة والهاشميين، ولا يخفى على أحد أن هذا السجع المصطنع الذي يجزم كل من له إلمام بالعربية بأنه بعيد من فصاحة الصحابة.
وهذه الرواية لو كانت عن علي من كلامه، لكانت موجودة قبل هذا المصنف، منقولة عن علي بهذه الأسانيد وبغيرها، فإذا عرف أنها لم تنقل قبل ذلك علم أنها كذب، وإلا فما إسنادها؟ ومن الذي نقلها عن علي رضي الله عنه([11])؟
وبناء على ما سبق نستطيع القول أن هذا دليل لا يحتج به لكذبه الواضح، ومن ثم لا يطعن في عدالة ابن عباس هذا الافتراء؛ لأنه ظاهر الكذب والاختلاق.
وكيف يفعل ابن عباس هذه الكبيرة، وهي سرقة مال المسلمين، وهو من هو في الصحبة والمكانة الرفيعة عند النبي – صلى الله عليه وسلم – وعند الخلفاء الراشدين الأربعة، وعند جميع الصحابة الكرام؟
فقد شهد له بالعدالة في القرآن والسنة مع باقي الصحابة، وقد دعا له النبي – صلى الله عليه وسلم – بالحكمة، فقد روى خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ضمني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى صدره، وقال: اللهم علمه الحكمة»([12]).
واختلف في المراد بالحكمة هنا، فقيل: الإصابة في القول، وقيل: الفهم عن الله، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوسواس، وقيل غير ذلك، وكان ابن عباس – رضي الله عنه – من أعلم الصحابة بتفسير القرآن، روى يعقوب بن سفيان في تاريخه بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: “لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل”، وكان يقول: “نعم ترجمان القرآن ابن عباس”، روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه عن ابن عمر قال: “هو أعلم الناس بما أنزل الله على محمد رضي الله عنه “، وروى يعقوب أيضا بإسناد صحيح عن أبي وائل قال: “قرأ ابن عباس سورة النور، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت”([13]). وعنه – رضي الله عنه – قال: «النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل الخلاء، فوضعت له وضوءا، فلما خرج، قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقهه في الدين»([14]).
وقد بلغ من العلم مبلغا عظيما وهو في سن مبكرة حتى لقب بحبر الأمة، وترجمان القرآن، وفقيه العصر، وإمام التفسير([15])؛ لذا فقد كان محط الأنظار في عهد أبي بكر الصديق، أما في عهد عمر بن الخطاب فقد اختير على الرغم من صغر سنه في مجلس الشورى، الذي كان يتكون من كبار شيوخ الصحابة: فقد كان عالما فقيها ورعا لا يقبل على ارتكاب المعاصي والمحرمات، يستحي من الله أن يفعل المعصية، فعن عكرمة عن ابن عباس أنه لم يكن يدخل الحمام إلا وحده، وعليه ثوب صفيق، يقول: “إني أستحي من الله أن يراني في الحمام متجردا”([16]).
وعن طاوس قال: ما رأيت أحدا أشد تعظيما لحرمات الله من ابن عباس([17]).
وعن سعيد بن جبير، قال: «كان ناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر – رضي الله عنه – في إدنائه ابن عباس دونهم، قال: وكان يسأله، فقال عمر: أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون به فضله، فسألهم عن هذه السورة: )إذا جاء نصر الله والفتح (1)( (النصر)، فقال بعضهم: أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – إذا رأى الناس يدخلون في دين الله أفواجا أن يحمده ويستغفره، فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن عباس، تكلم، فقال: أعلمه متى يموت، أي: فهي آيتك من الموت، فسبح بحمد ربك واستغفره»([18]).
ثم يعلق ابن حجر على الحديث قائلا: وفيه فضيلة ظاهرة لابن عباس وتأثير لإجابة دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين، وفيه جواز تأويل القرآن بما يفهم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم، ولهذا قال على رضي الله عنه: أو فهما يؤتيه الله رجلا في القرآن([19]).
وعن ابن عباس قال: قدم على عمر رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقلت: والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر، ثم قال: مه. فانطلقت إلى منزلي مكتئبا حزينا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة، فلا أراني إلا قد سقطت من نفسه، فاضطجعت على فراشي، حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك، قيل لي: أجب أمير المؤمنين. فخرجت، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأت فإني أستغفر الله، وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت، قال: لتخبرني، قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحيفوا، ومتى ما يحيفوا، يختصموا، ومتى ما اختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا، يقتتلوا. قال: لله أبوك، لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها”([20]).
فهل كل هذه الحكمة، وهذا العلم يدفع صاحبه لأن يسرق من أموال المسلمين شيئا؟! وهل هذه الشهادات من مثل هؤلاء الصحابة الكرام تكون لمن يسرق؟!
إن شخصية ابن عباس كانت شخصية علمية جمعت صفات العالم الرباني، من العلم والفطنة والذكاء والصبر والحزم وغيرها من الصفات.
ثانيا. إن غلظة ابن عباس مع عائشة رضي الله عنهما قصة مكذوبة:
لقد حاول بعض المغرضين نسب بعض الأقوال إلى ابن عباس – رضي الله عنه – موردين قصة ذكروها في كتبهم، وفيها مناظرة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لعائشة رضي الله عنها وفيها أن ابن عباس قال يخاطب عائشة: “.. وما أنت إلا حشية([21]) من تسع حشايات خلفهن بعده، لست بأبيضهن لونا، ولا بأحسنهن وجها، ولا بأرشحهن عرقا، ولا بأنضرهن ورقا…”إلخ.
وهي قصة مكذوبة على ابن عباس رضي الله عنهما وعمدة إسنادها أبو مخنف لوط بن يحيى، الإخباري التالف، والرافضي المحترق الذي أجمع أئمة النقاد على تضعيفه وتركه([22])، ومن عباراتهم فيه:
قول يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدراقطني: إخباري ضعيف([23])، وقال الذهبي: إخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره، وقال الدراقطني: ضعيف، وقال مرة: ليس بشيء، وقال ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم([24]).
فهو – إذن – مجمع على تضعيفه، ولا يوثق بكلامه.
وأبو مخنف لوط بن يحيى هذا هو عمدة إسناد هذه القصة المفتراة والتي أوردها الشيعة في كتبهم واعتمدوها، مع ما فيها من سوء أدب مع أمهات المؤمنين، لاسيما عائشة رضي الله عنها وفيها قول ابن عباس لعائشة: “ما أنت إلا حشية من تسع حشايات خلفهن بعده”، ولا يشك من عنده أدنى فهم، أو له أدنى إلمام بسيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم – في كذب هذه الافتراءات وبعدها عن الحقيقة([25]).
وليس من المعقول أن تصدر الغلظة وسوء الأدب مع أمهات المؤمنين، وخاصة أم المؤمنين عائشة ومن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، فهو المشتهر بالفراسة والكياسة والفطنة.
كما أن ابن عباس كان يجل العلماء بالرغم من مكانته العظيمة وتوقير الناس له، فكان يمسك جواد زيد بن ثابت عندما يمتطي جواده، فينزعج زيد بن ثابت – رضي الله عنه – ويقول: “لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فيقول ابن عباس رضي الله عنه: “هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا”، فيسرع زيد بن ثابت، ويقبل يد ابن عباس قائلا: “وهكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا”([26]).
هكذا كان حاله دائما مع العلماء، فكيف مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها العالمة الفقيهة، التي كان يرجع إليها في كل شيء فعن هشام عن أبيه قال: “ما رأيت أحدا أعلم بفريضة، ولا أعلم بفقه ولا بشعر من عائشة”([27]).
وكان – رضي الله عنه – متسامحا لا يحمل بغضا ولا كرها لأحد حتى يفعل مثل هذه الفعلة القبيحة، وهو نقي السريرة دائما مع الناس جميعا.
فعن ميمون بن مهران قال: سمعت ابن عباس يقول: “ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به، هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة”([28]).
وهل يعقل أن يقول لها ابن عباس ذلك، وتقول هي عنه: إنه أعلم الناس بالحج، فقد أخرج يعقوب بن سفيان من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن شيب قال: “قالت عائشة: هو أعلم الناس بالحج”([29]).
ومما يبطل هذه الدعوى الكاذبة، ويؤكد العلاقة الطيبة بين عبد الله بن عباس والسيدة عائشة رضي الله عنهما ما روي عن بن أبي مليكة «عن ذكوان مولى عائشة: أنه استأذن لابن عباس على عائشة رضي الله عنها وهى تموت، وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقال هذا ابن عباس يستأذن عليك، وهو من خير بنيك، فقالت: دعني من ابن عباس ومن تزكيته، فقال: لها عبد الله بن عبد الرحمن إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، فأذني له فليسلم عليك وليودعك، قالت: فأذن له إن شئت، قال فأذن له، فدخل ابن عباس ثم سلم وجلس، وقال: أبشري يا أم المؤمنين فوالله ما بينك وبين أن يذهب عنك كل أذى ونصب – أو قال: وصب – وتلقي الأحبة محمدا وحزبه، أو قال أصحابه إلا أن تفارق روحك جسدك، فقالت: إيها يا ابن عباس، فقال ابن عباس: كنت أحب أزواج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليه، ولم يكن يحب إلا طيبا، وأنزل الله – عز وجل – براءتك من فوق سبع سماوات، فليس في الأرض مسجد إلا وهو يتلى فيه أناء الليل وآناء النهار، وسقطت قلادتك بالأبواء فاحتبس النبي – صلى الله عليه وسلم – في المنزل والناس معه في ابتغائها، أو قال في طلبها، حتى أصبح القوم على غير ماء، فأنزل الله عز وجل: )فتيمموا صعيدا طيبا( (النساء: ٤٣)، فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سببك؛ فوالله إنك لمباركة، فقالت: دعني يا ابن عباس من هذا، فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا»([30]).
فهل بعد هذه البشرى التي بشرها عبد الله بن عباس لأم المؤمنين عائشة يشكك المغرضون في العلاقة بينه وبينها، رضي الله عنهما؟!!
ولله در حسان بن ثابت حين قال فيه:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة
فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا
ونخلص من هذا كله إلى أن الرواية التي استدلوا بها عمدة إسنادها هو أبو مخنف لوط بن يحيى وهو ضعيف رافضي ليس بثقة، ومن ثم فهي رواية ضعيفة لا تصح ولا يجوز الاحتجاج بها.
وكذلك تتضح منزلة ابن عباس السامية في الإسلام فهو من السابقين الأولين الذين رضي الله عنهم، ومن المنصوص على عدالتهم رضوان الله عنهم بأعيانهم فضلا عن تزكيته ضمن النصوص الواردة في الصحابة عامة، ويتبين أيضا بطلان تلك الروايات المفتراة على الصحابة ووهنها في ميزان النقد الحديثي، وبذلك يظهر حمق تلك الدعاوى وتهافت مدعيها.
الخلاصة:
· إن الرواية التي تتهم ابن عباس بسرقة مال البصرة رواية مكذوبة لا تصح؛ لأنها لم ترد في أي من الكتب الصحيحة، وقد نقلها المدعون من كتاب “نهج البلاغة” المنسوب لسيدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وقد بين العلماء أن هذا الكتاب ليس من كلام الإمام علي، وإنما هو من كلام بعض الأئمة الروافض؛ لذلك فهذه الرواية ملفقة على سيدنا علي – رضي الله عنه – ولا تصح عنه، ومما يؤكد كذبها أنها لو كانت صحيحة لكانت موجودة قبل هذا المصنف الذي اعتمدوا عليه، ولما لم تنقل قبله علم كذبها.
· كيف نطعن في صحابي جليل اعتمادا على رواية شاذة غير صحيحة، تعارضها أخبار مشهورة صحيحة هي من الكثرة بمكان؟
· لقد أجمع الصحابة والتابعون والعلماء جميعا على جلالة ابن عباس وعدالته الثابتة بالكتاب والسنة، وشدة تعظيمه لحرمات الله، التي تتنافى مع هذا الاتهام.
· لقد كان ابن عباس – رضي الله عنه – أكثر الصحابة علما بما في كتاب الله – عز وجل – وهذا إنما تحقق بفضل دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له في قوله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل»؛ لذلك كان يطلق عليه، حبر الأمة، وترجمان القرآن.
· إن اتهام ابن عباس بالغلظة مع عائشة رضي الله عنها لا يصح؛ لأن الرواية التي ادعت ذلك رواية موضوعة، إذ عمدة إسنادها أبو مخنف لوط بن يحيى الذي أجمع أئمة النقاد على تضعيفه وتركه.
· مما يبين بطلانها أن ابن عباس عرف عنه أنه كان يجل العلماء ويقدرهم، والسيدة عائشة من أعلم الصحابة فكيف لا يوقرها؟ وكيف يقول لها ذلك، وتقول هي عنه: إنه أعلم الناس بالحج؟ إن العقل السليم لا يقبل هذا أبدا.
· وكذلك شهادة ابن عباس لها رضي الله عنها وهي على فراش الموت، وتبشيره إياها بالجنة؛ لقربها من النبي – صلى الله عليه وسلم – وفضلها على هذه الأمة ينفي عنه هذا القول تماما.
أليست هذه كلها أدلة قاطعة على بطلان ما ادعوه من كذب وبهتان على صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذين زكاهم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – في القرآن والسنة؟!
(*) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م. الصاعقة في نسف أباطيل وافتراءات الشيعة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مع دفع الكذب المبين عن أمهات المؤمنين، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1425هـ/ 2004م.
[1]. نهج البلاغة: كتاب جمعه: الشريف الرضي والشريف المرتضي، وزعموا أنه من كلام الإمام علي بن أبي طالب، وزادوا فيه الكثير من سب الصحابة ومن الأمور التي يظهر فيها التشيع.
[2]. كلب: اشتد.
[3]. خزيت: ذلت وهانت.
[4]. المجن: هو الترس؛ والمعنى: كنت معه فصرت عليه.
[5]. الأزل: هو الخفيف الوركين، وذلك أشد لعدوه، وأسرع لوثوبه.
[6]. ضح رويدا: كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون.
[7]. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، مصر، ط1، 1378هـ/ 1959م، (16/ 167، 168).
[8]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (3/ 369).
[9]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (17/ 589، 590) بتصرف.
[10]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 124).
[11]. كتب حذر منها العلماء، أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار الصميعي، الرياض، ط3، 1426هـ/ 2005م، (2/ 255، 256) بتصرف.
[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: ذكر ابن عباس رضي الله عنه، (7/ 126)، رقم (3756).
[13]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (7/ 126).
[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، (1/ 294)، رقم (143). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عباس، (8/ 3616)، رقم (6251).
[15]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 331).
[16]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص355.
[17]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م،ص342.
[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب قوله: ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3) (، (8/ 606)، رقم (4970).
[19]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (8/ 608) بتصرف.
[20]. مصنف عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1430هـ، (11/ 217)، رقم (20368).
[21]. حشية: فرشة.
[22]. انظر: مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، رسالة ماجستير، يحيى بن إبراهيم اليحيى، ص43: 46، نقلا عن: موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، دار أضواء السلف، السعودية، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص1272، 1273.
[23]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (7/ 302).
[24]. ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (3/ 419، 420).
[25]. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، السعودية، ط1، 1426هـ/ 2006م، (3/ 1274، 1275).
[26]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، (4/ 146).
[27]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الفرائض، باب: ما قالوا في تعليم الفرائض، (7/ 324)، رقم (7).
[28]. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1405هـ، (4/ 85).
[29]. الإصابة، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، د. ت، (4/ 147).
[30]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم، مسند عبد الله بن عباس، (5/ 90، 91)، رقم (3262). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.