الاولياء - على زعمهم - يامرون الناس بعبادتهم
وأما معرفته ( أي القادري ) بعلم الغيب وما يختلج في الصدور فروايات وروايات , وحكايات وحكايات , وكتب القوم مليئة منها , وواحدة من ذلك البحر الخضم هي :
" لما أشتهر أمره في الآفاق اجتمع مائة فقيه من أذكياء بغداد يمتحنونه في العلم , فجمع كل واحد له مسائل وجاء إليه , فلما استقر بهم المجلس أطرق الشيخ فظهرت من صدره بارقة من نور فمرت على صدور المائة فمحت ما في قلوبهم فبهتوا واضطربوا وصاحوا صيحة واحدة ومزّقوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم , ثم صعد الكرسي وأجاب الجميع عما كان عندهم , فاعترفوا بفضله " [1] .
وأخرى ما ذكره الشنطوفي عن محمد بن سهل أنه قال :
" حضرت مجلس الشيخ عبد القادر رضي الله عنه في سنة تسع وعشرين وخمسمائة وكنت في أخيريات الناس , وكان يتكلم في الزهد , قلت في نفسي : أريد أن يتكلم في المعرفة فقطع كلامه من الزهد وتكلم في المعرفة كلاماً ما سمعت مثله , فقلت في نفسي : أريد أن يتكلم في علم الغيبة والحضور فقطع كلامه من المعرفة وتكلم في الغيبة والحضور كلاماً ما سمعت مثله , فقلت في نفسي : أريد أن يتكلم في الشوق فقطع كلامه من الغيبة والحضور وتكلم كلاماً في الشوق ما سمعت مثله , فقلت في نفسي : أريد أن يتكلم في الفناء والبقاء فتكلم في الفناء والبقاء كلاماً ما سمعت مثله , ثم قال : حسبك يا أبا الحسن , فلم أتمالك أن مزقت ثيابي " [2] .
وأما تصرفه حياً وميتاً , وملكه المغفرة لمريديه فذكر كل من الشنطوفي وابن التادفي وعبد الحق الدهلوي وغيرهم من المتصوفة أنه : ضمن لمريديه إلى يوم القيامة أن لا يموت أحد منهم إلاّ على توبة , وأعطى أن مريديه ومريدي مريديه إلى سبعة يدخلون الجنة .
وقال : أنا كافل لمريد المريد إلى سبعة كل أموره , ولو انكشفت عورة مريدي بالمشرق وأنا بالمغرب لسترتها , وأمرنا من حيث الحال والقدر أن نحفظ بهممنا ( أي بقدراتنا ) أصحابنا .
وطوبى لمن رآني ورأى من رآني , ورأى من رأى من رآني , وأنا حسرة على من لم يرني " [3] .
وقال : أعطيت سجلاً مدّ البصر فيه أسماء أصحابي ومريدي إلى يوم القيامة , وقيل لي : قد وهبوا لك , وسألت مالكاً خازن النار : هل عندك من أصحابي أحد ؟
فقال : لا وعزة ربي وجلاله , إن يدي على مريدي كالسماء على الأرض أن لم يكن مريدي جيداً فأنا جيد .
وعزة ربي وجلاله , لا برحت قدماي من بين يدي ربي حتى ينطلق بي وبكم إلى الجنة " [4] .
وذكر الشعراني وغيره أنه كان يقول :
" أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي خفف الله عنه العذاب إلى يوم القيامة .
وكان رجل يصرخ في قبره ويصيح حتى آذى الناس فأخبروه به , فقال : أنه رآني مرة ولا بدّ أن الله تعالى يرحمه لأجل ذلك .
فمن ذلك الوقت ما سمع له أحد صراخاً " [5] .
وكان يقول :
" عثر الحلاج فلم يكن في زمانه من يأخذ بيده , ولو كنت في زمنه لأخذته بيده , وأنا لكل من عثر مركوبة من أصحابي ومريدي ومحيي إلى يوم القيامة , آخذ بيده . . . هذا فرسي مسرج , وسيفي شاهر , ورمحي منصوب وقوسي موتد , أحفظك وأنت غافل " [6] .
وكان يقول :
" من استغاث بي في كربة كشفت عنه .
ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه .
ومن توسل بي حاجة قضيت له .
ومن صلى ركعتين يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام ويسلم عليه ويذكرني , ثم يخطو إلى جهة العراق إحدى عشرة خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضي بإذن الله " [7] .
هذا وإن الصوفية رووا عنه أنه :
قيل له : إننا مثل ما تصوم , ونصلي مثل ما تصلي , ونجتهد مثل ما تجتهد , وما نرى من أحوالك شيئاً ؟
فقال رضي الله عنه : زاحمتمونا في الأعمال , أتزاحمونا في المواهب ؟
والله ما أكلت حتى قيل لي : بحقي عليك كل , ولا شربت حتى قيل لي : بحقي عليك أشرب , وما فعلت شيئاً حتى أمرت بفعله .
إلى أن قال فيها أيضاً : وقال رضي الله عنه : رأيت في المنام كأني في حجر عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأنا أرضع ثديها الأيمن , ثم أخرجت لي ثديها الأيسر فرضعته – عياذاً بالله على نقل هذه الإهانة – فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : يا عائشة , هذا ولدنا حقاً "[8] .
فهؤلاء القادرية أحياناً أتصفو بصفات الرب جلّ وعلا , وأحياناً جعلوه نبياً لا يفعل شيئاً إلا إذا أمر , وأحياناً ذكروا عنه وقائع , ونسبوا إليه مناقب وفضائل فيها إهانة للنبي الطاهر المطهر وأهله صلوات الله وسلامه عليه .
ثم وإنهم قالوا : قال الشيخ أبو سلمان داود المنبجي : " كنت يوماً عند الشيخ عقيل المنبجي رضي الله عنه , فقيل له : قد أشتهر ببغداد شاب أعجمي شريف أسمه عبد القادر فقال الشيخ عقيل : وإن أمره في السماء أشهر منه في الأرض " [9].
وأما كراماته التي يروي عنه المتصوفة فإنها لا تعدّ ولا تحصى , فإنها تنبئ وتخبر بأن جميع اختيارات الرب وقدراته بيده , إن لم يزد عليها فلم ينقص عنها .
وهذه بعض المختطفات منها " أنه توضأ يوماً فبال عليه عصفور فرفع رأسه إليه فإذا هو ميت " [10] .
وأكثر منها أنه مرّ على مجلسه حدأة فصاحت , فشوّشت على الحاضرين , فقال : يا ريح , خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية , فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده وأمرّ يده الأخرى وقال : بسم الله الرحمن الرحيم , فحييت وطارت " [11] .
ومثل هذه كثيرة جداً نقلنا بعضاً منها في باب " أولياء أم آلهة " .
وقد نسبت إليه كذلك منظومات تدلّ على أن الجيلاني كان يقدّم نفسه كإله مالك الاختيارات والقدرات .
وعن تلك المنظومات قال المستشرق براؤن : إن الأشعار التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر تدلّ إليه , يبدو أنها ليست من كلامه " [12] .
وقال العلامة رشيد رضا : بنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره أو النقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها ( دائرة المعارف ج 11 ص 623 ) [13].
وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي في الشيخ عبد القادر الجيلاني .
" ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثركم الشيخ عبد القادر لكن كثيراً منها لا يصح , وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة . . . وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه والله الموعد , وبعض ذلك مكذوب عليه " [14] .
وما قاله الذهبي نقل مثله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً , وهو صحيح , لا يظن أن مثل الشيخ عبد القادر الجيلي يتكلم بمثل ما نقلوا عنه ورووه ولا يقول بمثل ما حكوا عنه والله اعلم .
وعلى كل فإن الشيخ توفي بعد عمر طويل ناهزت تسعين سنة 561 هـ , ودفن ببغداد في مدرسته .
وهناك أوراد ووظائف ينقلونها عن الشيخ وعن خلفائه تسمى بأذكار القادرية وأورادها . وسنده في التصوف والخرقة إلى الحسن البصري حسب ما يزعمون , وأنه لبس الخرقة من الحسن رضي الله عنه مع أن لقاء الحسن البصري لم يثبت في القول الصحيح فهؤلاء هم القادرية وعقائدهم .
وبقيت هناك قضية كنا وعدنا بذكرها في ترجمة الجيلي , وهو علاقة الجيلي مع متصوفة عصره وزمانه , وعلى رأسهم معاصرة المشهور أبو العباس أحمد الرفاعي الذي ينازعه في الولاية والقطبية والغوثية وعلى رئاسة متصوفة ذلك الزمان .
فإن الرفاعية يقولون : إن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان تحت رعاية وسيادة الرفاعي .
والقادرية يدّعون أن الأمر معكوس , وإن الرفاعي هو الذي كان تابعاً للجيلاني , والجيلاني كان متبوعاً , ثم يختلق كل واحد من هذه الطوائف روايات وحكايات فزّوره مكذوبة لترجيح وتفضيل سيدهم على الآخر .
فالرفاعية يحكون عن حسن النقيب أنه قال :
" حضرنا في مجلس الشيخ الكبير السيد أحمد مع جماعة من المشائخ الكبار ذوي القدر والافتخار أصحاب الكرامات والأسرار منهم سيدي بنائن بطو ومنهم سيدي حماد الدباس ومنهم سيدي أبو سعيد الخراز علي المخزومي ومنهم سيدي أحمد بن تاج الدين أبو الوفا . ومنهم سيدي عبد الرزاق الواسطي . ومنهم منصور بن الحسين الواسطي . ومنهم عقيل المنجي . ومنهم سيدي حباب بن قيس الحراني . ومنهم سيدي عبد القادر الكيلاني . ومنهم سيدي أحمد الأزرق . ومنهم سيدي محمد بن عبدو . ومنهم سيدي عدي بن مسافر الشامي . وغيرهم من بقية الأولياء العظام . وهم ببلاد الشط على شاطئ الفرات يتحادثون في علوم وأسرار عجيبة وأحوال غريبة أطلعهم الله تعالى عليها . فبينما هم كذلك إذ قام من الله بصدق الكلام والسعادة . ما منا إلا ومن هو تحدثه نفسه بأنه شيخ الشيوخ وسلطان العارفين وهذه دعوة لا دليل لها إلا ببرهان قوي مبين . فأطرق الحاضرون رؤوسهم ولم يرد أحد جوابه فعاد القول ثانياً وثالثاً فالتفت إليه الشيخ الكبير السيد أحمد بن أبي الحسن الرفاعي وقال حشرت مع فرعون وهامان وقارون إن خطر ببالي إنني شيخ على أحد من خلق الله تعالى مطلقاً إلا أن يتغمدني الله برحمته فأكون كأحد المؤمنين لكن أي سادة انظروا إلى أمامكم من ذلك الشاطئ ماذا ترون . فقالوا أي سيدنا نرى شجرة كبيرة ممتدة الأغصان طويلة الأفنان فقال لهم أي سادة من كان منكم يريد مشيخة الشيوخ إليه فيدعوها بأن تأتي إليه إلى هذا الجانب فنقوم كلنا نبايعه ونكون في خدمته ونرعى حق حرمته فلما سمعوا كلامه قاموا كلهم ودعوها واحد بعد واحد فلم تتحرك بحركة . فلم قام قطب الوجود سيدي تاج العارفين أبو الوفا ودعاها تمايلت وأضطربت اضطرابا شديداً حتى كادت أن تنكسر ولم تنم من مقامها . فقام قطب السادات السيد عبد القادر الكيلاني ودعاها فقامت من مكانها وسعت إلى عند كنار البحر ووقفت هناك فلما جاءت نوبة الشيخ الكبير السيد أحمد جاؤوا إليه وقالوا له نريد نوبتك أي سيدي . فقال لهم ومن هو حميد اللاش حتى يكون له نوبة . فقالوا نقسم عليك بالعزيز سبحانه أن نقوم في نوبتك وندعوها حتى نرى مقام عزتك فقال لهم : أي سادة أقسمتم عليّ بعزيز لا يمكنني المخالفة . وقام قائماً على قدميه وقال أي خلق الله أقسم عليك بالعزيز سبحانه إلا ما أجبت دعوتي . وأتيتني طائعة مقرة بما ألهمك الله تعالى به . فشقت الأرض والبحر وأتت طائعة مقرة شاهدة بلسان عربي فصيح قائلة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إن محمداً رسول الله وإنك شيخ الشيوخ على الإطلاق وشيخ أهل الأرض والسماء بالوفاق فلما شاهدوا من كراماته ما شاهدوه عياناً قاموا على أقدامهم وكشفوا رؤوسهم وبايعوه أن يكون شيخاً عليهم وعلى كل من يلوذ بهم . هو وذريته إلى يوم القيامة " [15] .
والقادرية يروون أنه لما قال الجيلاني في بغداد " رقبتي هذه على كل ولي ّلله طأطأت رؤوسها له , ونقل أن السيد أحمد الرفاعي كان آنذاك في بلدته أم عبيدة : وعلى رقبتي أيضاً [16] .
وقد مر بعض تفصيله فيما سبق .
وأيضاً " قال نقيب الأولياء أبو العباس الخضر ومثله ممن أطلعه الله على مقامات الأولياء كلهم ما هو نص في عموم فضله وشرفه على المتقدمين والمتأخرين [17] .
وروى ابن الملقن ما يؤيّد القادرية , عند ذكر الرفاعي حيث نقل عن أبي العباس الخضر بن عبد الله الحسني الموصلي أنه قال :
" كنت يوماً جالساً بين يدي الشيخ عبد القادر الجيلاني , فخطر في نفسي زيارة الشيخ أحمد , فقال الشيخ : أتحب رؤيته ؟
فقلت : نعم , فأطرق وقال : حضر , فقمت إليه وسلمت عليه , فقال : يا خضر ! ومن يرى مثل الشيخ عبد القادر سيد الأولياء يتمنى رؤية مثلي ؟ وهل أنا إلا من رعيته ! ثم غاب , فبعد وفاة الشيخ زرته , فقال لي : يا خضر ! ألم تكفك الأولى " [18] .
[1] الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 , بهجة الأسرار ص 96 , جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2 / 90 .
[2] بهجة الأسرار ص 94 .
[3] بهجة الأسرار ص 99 , قلائد الجواهر ص 15 , أخبار الأخيار .
[4] بهجة الأسرار ص 100 .
[5] طبقات الشعراني ج 1 ص 126 , بهجة الأسرار ص 101 , قلائد الجواهر ص 15 .
[6] قلائد الجواهر ص 17 , بهجة الأسرار ص 102 .
[7] بهجة الأسرار ص 102 .
[8] الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 40 .
[9] الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 , أيضاً الفتح المبين ص 21 , جامع كرامات الأولياء .
[10] جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2 / 11 .
[11] جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 91 .
[12] دائرة المعارف الإسلامية ملخصاً مقال المستشرق براؤن عن الشيخ عبد القادر الجيلاني .
[13] دائرة المعارف ج 11 ص 623 .
[14] سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 450 , 451 .
[15] قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر محمد أبي الهدى الرفاعي ص 91 , 92 .
[16] أنظر الفتح المبين , قلائد الجواهر , بهجة الأسرار ونشر المحاسن الغالية . وغيرها من الكتب , وقد مرّ ذكر أرقام الصفحات فيما سبق .
[17] الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 111 .
[18] طبقات الأولياء لإبن الملقن ص 100 .