رد مختصر حول الفتن التي دارت بين الصحابة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله , ثم اما بعد :
قال صلى الله عليه وسلم : ( وإذا ذكر اصحابي فأمسكوا , واذا ذكر النجوم فأمسكوا , واذا ذكر القدر فأمسكوا ) اخرجه الطبراني في الكبير ج 2 ص 78 , وابو نعيم في الحلية ج 4 ص 108 , وفي الامامة من حديث ابن مسعود وقواه الالباني بطرقه وشواهده في السلسلة الصحيحة ج 1 ص 34 .
فلذلك منهج اهل السنة والجماعة : الامساك عن ذكر هفوات الصحابة , وتتبع زلاتهم , وعدم الخوض فيما شجر بينهم .
قال ابو نعيم رحمه الله : ( فالامساك عن ذكر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذكر زلاتهم ونشر محاسنهم ومناقبهم , وصرف امورهم الى اجل الوجوه – من امارات المؤمنين المتبعين لهم باحسان , الذين مدحهم الله عز وجل بقوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان . الامامة ص 373 .
ويقول ايضاً في تعليقه على الحديث المشار اليه : ( لم يأمرهم بالامساك عن ذكر محاسنهم وفضائلهم , انما أمروا بالامساك عن ذكر افعالهم وما يفرط منهم في ثورة الغضب وعارض الموجدة . الامامة 347 .
اذاً فالامساك المشار اليه في الحديث الشريف امساك بخصوص يقصد به عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات , ونشر ذلك بين العامة , او التعرض لهم بالتنقص لفئة , والانتصار لأخرى . منهج كتابة التاريخ الاسلامي لمحمد بن صامل العلياني السلمي ص 227 – 228 .
ونحن لم نؤمر بما سبق وانما امرنا : بالاستغفار لهم , ومحبتهم , ونشر محاسنهم وفضائلهم . لكن اذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلابد من الذّب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل . منهاج السنة ج 6 ص 254 تحقيق د. رشاد سالم .
وللأسف انتشرت روايات الغث والسمين في كتب التاريخ , فمن كتب في التاريخ كالطبري وغيره جمع عشوائي بدون التحقق من صحة الرواية جمع كل ما سمع به , وتركوا التحقيق لمن يأتي بعدهم . فلذلك اذا اقتضت الحاجة في ذكر ما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم يجب ان يكون هناك أسس وتوجيهات :
أسس البحث في تاريخ الصحابة:
أولاً: إن الكلام عما شجر بين الصحابة ليس هو الأصل، بل الأصل الاعتقادي عند أهل السنة والجماعة هو: الكف والإمساك عما شجر بين الصحابة، وهذا مبسوط في عامة كتب أهل السنة في العقيدة، كـالسنة لـعبد الله بن أحمد بن حنبل والسنة لـابن أبي عاصم، وعقيدة أصحاب الحديث للصابوني، والإبانة لـابن بطة، والطحاوية، وغيرها.
ويتأكد هذا الإمساك عند من يخشى عليه الالتباس والتشويش والفتنة، وذلك بتعارض ذلك بما في ذهنه عن الصحابة وفضلهم ومنزلتهم وعدالتهم وعدم إدراك مثله لصغر سنه، أو حداثة عهده بالدين... لحقيقة ما حصل بين الصحابة، واختلاف اجتهادهم في ذلك، فيقع في الفتنة بانتقاصه للصحابة من حيث لا يعلم.
وهذا مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف، وهي ألا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم، قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا) ( فتح الباري: (1/199) وصحيح البخاري (1/41) كتاب العلم: باب رقم (49) ط. تركيا( وقال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله). وقال الحافظ في الفتح تعليقاً على ذلك: (وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة). ومثله قول ابن مسعود: (ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) )رواه مسلم: في مقدمة الصحيح (1/11)، وانظر تخريجه في: جامعة الأصول 8/17). وممن كره التحدث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج عن السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب...- إلى أن قال: (وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم . فتح الباري: (1/199-200)، وراجع أيضاً كلاماً جيداً للسلمي في: كتابه منهج كتابة التاريخ: (228) .
ثانياً: وإذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلابد من التحقق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) [الحجرات:6] هذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا، فوجوب التثبت والتحقيق فيما ينقل عن الصحابة وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصاً ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف، إما من جهة أصل الرواية، أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما . منهاج السنة: (5/72)، وما بعدها، (81)، وانظر دراسة نقدية: مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري -عصر الراشدين- ليحيى اليحيى، ط. دار العاصمة 1410هـ.
من أجل ذلك لا يجوز أن يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن تيقنا ما ثبت في فضلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانه. منهاج السنة: (6/305) بتصرف.
ثالثاً: إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل، وكان ظاهرها القدح، فيلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير، قال ابن أبي زيد: والإمساك عما شجر بينهم، وإنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب. مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني: (، وانظر تنويراً لمقالة في حل ألفاظ الرسالة للتتائي (ت942هـ) تحقيق/ د. محمد عايش عبد العال شبير (1/367) وما بعدها. وقال ابن دقيق العيد: (وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه: فمنه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً أولناه تأويلاً حسناً؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل المحقق والمعلوم أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان، ص360. هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم.
رابعاً: أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد العلمي فهم فيه مجتهدون، وذلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
القسم الأولى: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
القسم الثاني: عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
القسم الثالث: اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين؛ فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك. مسلم بشرح النووي: (15/149)، 18/11)، وارجع الإصابة: (2/501، 502) فتح الباري: (13/34)، وإحياء علوم الدين: (1/102(
إذن هذا القتال هم متأولون فيه، لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها، وذلك لا يخرجهم من العدالة، بل هم في حكم المجتهدين في مسائل الفقه، فلا يلزم نقص أحد منهم، إنما هم بين أجر وأجرين.
أيضاً من المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على نصب إمام غير علي، ولا كان معاوية يقول إنه الإمام دون علي، ولا قال ذلك طلحة والزبير، وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء؛ بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان رضي الله عنهم، وهو من باب قتال أهل العدل والبغي، وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام، لا على قاعدة دينية -أي ليس بسبب خلاف في أصول الدين منهاج السنة: (6/327) بتصرف، وراجع ما بعدها إلى (ص:340) .
ويقول عمر بن شبة: (إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا أحداً ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتال قتلة عثمان، وترك الاقتصاص منهم . أخبار البصرة لعمر بن شبة، نقلاً عن فتح الباري: (13/56(
ويؤيد هذا ما ذكره الذهبي: (أن أبا مسلم الخولاني وأناساً معه جاءوا إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمته، والطالب بدمه؟ فائتوه فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه . سير أعلام النبلاء للذهبي: (3/140). بسند رجاله ثقات، كما قال الأرناؤوط.
وفي رواية عند ابن كثير: (فعند ذلك صمم أهل الشام على القتال مع معاوية) البداية والنهاية: (8/132)، وانظر كلاماً لإمام الحرمين، وتعليقاً للتباني عليه - إتحاف ذوي النجابة (ص:152، 153(
وأيضاً فجمهور الصحابة وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: (هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين).
قال ابن تيمية: (وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل ) منهاج السنة: (6/236، 237) راجع في نفس الموضع نصوصاً أخرى تدل على قلة من حضر الفتنة من الصحابة.
فأين الباحثون المنصفون ليدرسوا مثل هذه النصوص الصحيحة؛ لتكون منطلقاً لهم، لا أن يلطخوا أذهانهم بتشويشات الإخباريين، ثم يؤولوا النصوص الصحيحة حسب ما عندهم من البضاعة المزجاة.
خامساً: مما ينبغي أن يعلمه المسلم حول الفتن التي وقعت بين الصحابة -مع اجتهادهم فيها وتأولهم- حزنهم الشديد وندمهم لما جرى، بل لم يخطر ببالهم أن الأمر سيصل إلى ما وصل إليه، وتأثر بعضهم التأثر البالغ حين يبلغه مقتل أخيه، بل إن البعض أيضاً لم يتصور أن الأمر سيصل إلى القتال، وإليك بعض من هذه النصوص:
هذه عائشة أم المؤمنين تقول فيما يروي الزهري عنها: (إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبداً . مغازي الزهري: (154(
وكانت إذا قرأت: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)) [الأحزاب:33] تبكي حتى يبتل خمارها . سير أعلام النبلاء: (2/177).
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول عنه الشعبي: (لما قتل طلحة ورآه علي مقتولاً، جعل يمسح التراب عن وجهه، ويقول: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجدلاً تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجزي وبجري -أي: همومي وأحزاني- وبكى عليه هو وأصحابه، وقال: يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة . أسد الغابة لابن الأثير: (3/88، 89) .
ويقول رضي الله عنه: (يا حسن! يا حسن! ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا، ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة . منهاج السنة: (6/209) الطبعة المحققة.
وكان يقول ليالي صفين: (لله در مقام عبد الله بن عمر وسعد بن مالك -وهما ممن اعتزل الفتنة- إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطره ليسير . منهاج السنة: (6/209) الطبعة المحققة.
فهذا قول أمير المؤمنين رغم قول أهل السنة إن علياً ومن معه أقرب إلى الحق فتح الباري: (12/67(
- وهذا الزبير بن العوام رضي الله عنه -وهو ممن شارك في القتال بجانب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- يقول: (إن هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها فقال مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك، إنا نُبصّر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر . تاريخ الطبري: (4/476(
- وهذا معاوية رضي الله عنه، لما جاءه نعي علي بن أبي طالب جلس وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت امرأته: أنت بالأمس تقاتله، واليوم تبكيه؟ فقال: ويحك، إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره)
وفي رواية: (ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم . البداية والنهاية (8/15، 133(
وبعد هذه النقولات كلها، كيف يلامون بأمور كانت مشتبهة عليهم، فاجتهدوا، فأصاب بعضهم وأخطأ الآخرون، وجميعهم بين أجر وأجرين، ثم بعد ذلك ندموا على ما حصل وجرى، وتابوا من ذلك، وما حصل بينهم من جنس المصائب التي يكفر الله عز وجل بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم ومنازلهم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يسير في الأرض وليس عليه خطيئة. رواه الترمذي رقم (2398)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان، والحاكم وسكت عليه هو والذهبي (1/41) وحسنه الألباني، المشكاة (1/492) من حديث سعد وصححه في الصحيحة رقم (144) وانظر شواهده (143، 145)، وراجع الفتح (10/111، 112( .
وعلى أقل الأحوال، لو كان ما حصل من بعض في ذلك ذنباً محققاً، فإن الله عز وجل يكفره بأسباب كثيرة، من أعظمها الحسنات الماضية من سوابقهم ومناقبهم وجهادهم، والمصائب المكفرة، والاستغفار، والتوبة التي بها يبدل الله عز وجل السيئات حسنات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . للتوسع راجع منهاج السنة (6/205-239) فقد ذكر عشرة أسباب مكفرة.
سادساً: نقول أخيراً: إن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بسابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نادر، مغفور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من إيمان وجهاد، وهجرة ونصرة، وعلم نافع وعمل صالح . انظر: شرح العقيدة الواسطية لخليل هراس: (164-167)
يقول الذهبي رحمه الله: (فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة . سير أعلام النبلاء: (10/93)، في ترجمة الشافعي.
إذن، فاعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي . المستصفى للغزالي: (1/157)، وراجع بتوضيح أكثر: منهج النقد عند المحدثين للأعظمي: (23-29(
ومع ذلك يجب الكف عن ذكر معايبهم ومساوئهم مطلقاً -كما مر سابقاً- وإن دعت الضرورة إلى ذكر زلة أو خطأ صحابي، فلابد أن يقترن بذلك ذكر منزلة هذا الصحابي من توبته أو جهاده وسابقته، فمثلاً: من الظلم أن نذكر زلة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، دون أن نذكر توبته التي لو تابها صاحب مكس لقبل منه.. وهكذا . الإمامة لأبي نعيم: (340، 341)، ومنهاج السنة: (6/207(
فالمرء لا يعاب بزلة يسيرة حصلت منه في فترة من فترات حياته وتاب منها، فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، سيما إن كانت له حسنات ومناقب ولو لم يزكه أحد، فكيف إذا زكاه خالقه العليم بذات الصدور؟!!
((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10[
قول علي فيمن حاربه من كتب الشيعة
ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه أن عليا (عليه السلام) كان يقول لاهل حربه: إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على التكفير لنا ولكنا رأينا أنا على حق ورأوا أنهم على حق.: بالاسناد قال: إن عليا لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: هم أخواننا بغوا علينا. كتاب بحار الانوار للمجلسي ج32ص324
وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام. والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الاسلام واحدة. لا نستزيدهم في الايمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله ولا يستزيدوننا. الامر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء. نهج البلاغة ج3 ص114