الرد على من زعم ان مسلم يروي عن الضعفاء والمتروكين
الزعم أن الإمام مسلما كان يروي عن الضعفاء والمتروكين(*)
مضمون الشبهة:
يطعن بعض المغالطين في الإمام مسلم، زاعمين أنه لم يتحر الدقة في اختيار من روى عنهم.
ويستدلون على ذلك بروايته عن سعد بن سعيد الأنصاري وهو ضعيف، فقد ضعفه الإمام أحمد والنسائي والترمذي، وذكره العقيلي في الضعفاء.
ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في أحد أصح كتابين بعد كتاب الله – سبحانه وتعالى – والتشكيك فيما جاء فيهما من سنة صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) لم يرو مسلم عن المتروكين – كما يدعي هؤلاء – وإنما روى عن المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية، ولا عيب عليه في ذلك؛ إذ قد يكون الراوي ضعيفا عند غيره ثقة عنده، أو أنه قد روى عنه في الشواهد والمتابعات، دون الأصل، أو يكون ضعف الضعيف قد طرأ عليه بعد أخذ مسلم عنه؛ إذ إن رواية مسلم عن راو توثيق له.
2) جمهور أئمة الجرح والتعديل على توثيق سعد بن سعيد الأنصاري، وأما تضعيف من ضعفه فيحمل على أنه ضعف نسبي ينزل به رتبة عن الثقة، بيد أنه لا يقل عن رتبة حسن الحديث إن لم يكن أحسن حالا من ذلك، أو أنه ضعف لخطئه في بعض الروايات، وليس من شروط الثقة ألا يغلط ولا يخطئ ولا يسهو.
التفصيل:
أولا. لا تثريب على الإمام مسلم في روايته عن المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية:
يجدر بنا أولا أن نشير إلى أن الإمام النووي – رحمه الله – قد رد على هذه الشبهة في مقدمته لشرح صحيح مسلم؛ إذ يقول: “عاب عائبون مسلما بروايته في ” صحيحه ” عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية، الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيب عليه في ذلك؛ بل جوابه من أوجه:
أحدها: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم، محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسرالسبب.
ثانيها: أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول، وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلا، ثم يتبعه بإسناد آخر، أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة، أو لزيادة فيها تنبيه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح منهم: مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.
ثالثها: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه، فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته، كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب، فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من “مصر” فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرزاق، وغيرهما ممن اختلط آخرا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.
رابعها: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي، ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة أهل الشأن في ذلك، وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا، وهو خلاف حاله فيما رواه عنه الثقات أولا، ثم أتبعه بمن دونهم متابعة، وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته. روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي، وذكر “صحيح مسلم”، وإنكار أبي زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضا: يطرق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث: ليس هذا في الصحيح.
قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى “نيسابور” ذكرت لمسلم إنكار أبي زرعة فقال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.
قال سعيد: وقدم مسلم بعد ذلك “الري”، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وادة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوا مما قاله لي أبو زرعة: إن هذا يطرق لأهل البدع، فاعتذر مسلم وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، وإنما أخرجت هذا الحديث من الصحيح ليكون مجموعا عندي، وعند من يكتبه عني، ولا يرتاب في صحته، فقبل عذره وحمده.
قال الشيخ: وقد قدمنا عن مسلم أنه قال: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال: إنه صحيح، وليست له علة، فهو هذا الذي أخرجته.
قال الشيخ: فهذا مقام وعر، وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف، ولله الحمد.
وفيما ذكرته دليل على من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل يتوقف ذلك على النظر في أنه كيف روى عنه على ما بيناه من انقسام ذلك، والله أعلم”[1].
يقول ابن رجب – رحمه الله -: “وأما مسلم فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط، ومن في حفظه بعض شيء، وتكلم فيه لحفظه لكنه يتحرى في التخريج عنه، ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال: إنه مما وهم فيه”[2].
ومن خلال ما ذكرناه يتأكد أن مسلما لم يرو عن المتروكين كما ادعى هؤلاء، وإن كان قد روى عن المتوسطين الواقعين في الدرجة الثانية فإنه لا عيب عليه في ذلك؛ لأنه كان يتحرى في التخريج عنهم.
ثانيا. توثيق أئمة الجرح والتعديل لسعد بن سعيد بن قيس، وتوجيه كلام من ضعفه:
ليس خافيا على ذي عينين ما لصحيح البخاري ومسلم من مكانة ومنزلة عظيمة عند أهل السنة والحديث، فقد تلقتهما الأمة بالقبول، وحصل لهما من الإجماع ما لم يحصل لغيرهما من كتب الحديث.
وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على أن للإمامين الجليلين، البخاري ومسلم، دراية واسعة في ميدان نقد الروايات والأحاديث، ومعرفة تامة بعلل الحديث وأحوال الرجال، وأنهما قد وضعا في صحيحهما شروطا خاصة وعالية في ضبط المتون وانتقاء رجال الأسانيد.
وأما ما قيل عن الإمام مسلم أنه روى عن الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح، فجوابه أنه لا عيب عليه في ذلك لما مر آنفا من وجوه ردت على ذلك.
إذا استوعبنا ما مضى علمنا لماذا ضعف سعد بن سعيد الأنصاري؛ إذ لم يعتمد من ضعفه على سبب يفسر هذا الضعف، لاسيما وهو ثقة عند كثير من الأئمة؛ فضلا عن أنه ثقة عند الإمام مسلم، وناهيك به دقة وتحريا لمن يروي عنهم، على عكس ما ادعاه هؤلاء.
· أقوال المجرحين لسعد بن سعيد والرد عليها:
لقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل سعد بن سعيد الأنصاري في كتابه “العلل ومعرفة الرجال”، فذكر “أنه ضعيف الحديث، قال عبد الله بن أحمد: قال أبي: سعد بن سعيد، أخو يحيى بن سعيد الأنصاري ضعيف الحديث [3].
وفي “سؤالات أبي داود” للإمام أحمد بن حنبل قال: “وقلت لأحمد: سعد، أعني به ابن سعيد؟ قال: ليس هو مثل هؤلاء، أعني أخويه: يحيى وعبد ربه، سعد ليس بمحكم الحديث”[4].
وقال النسائي في السنن الكبرى: “عبد ربه ويحيى بن سعيد وسعد بن سعيد بن قيس بن فهد الأنصاري، وهم ثلاثة إخوة، ويحيى بن سعيد أجلهم وأنبلهم، وهو أحد الأئمة وليس بالمدينة بعد الزهري في عصره أجل منه، وعبد ربه ثقة، وسعد ضعيف”[5].
ثم ذكره في كتاب الصيام من السنن الكبرى وحكى قول الإمام أحمد فيه.
قال النسائي: “سعد بن سعيد، ضعيف، كذلك قال أحمد بن حنبل: يحيى بن سعيد بن قيس الثقة المأمون، وعبد ربه بن سعيد لا بأس به، وسعد بن سعيد ثالثهم ضعيف”[6].
ولعل هذا سبب توهين سعد عند النسائي – أي تضعيف أحمد له – حتى قال عنه: “ضعيف”. وقال في موضع آخر من بعض تصانيفه: “ليس بالقوي”[7].
ولذا ذكره النسائي في كتابه “الضعفاء والمتروكين”، قال: سعد بن سعيد بن قيس: “مدني، ليس بالقوي”[8].
وقال العقيلي في كتاب الضعفاء الكبير: “حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: سعد بن سعيد، أخو يحيى بن سعيد الأنصاري: ضعيف الحديث[9].
ولقد أودعه في كتابه “الضعفاء الكبير” لقول الإمام أحمد[10]. قال الترمذي: “وسعد بن سعيد، هو أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه”[11].
“ولا ندري ما حجته، ومن هؤلاء الذين تكلموا فيه؟ إذ لابد عند نقد الرجال أن يعرف المعدل أو الجارح، مع بيان مرتبته في هذا الباب ومعرفة أسباب الجرح، فقد يكون ما ذكره سببا للجرح ليس بجارح عند أئمة هذا الشأن؛ لذلك قال الحافظ أبو حفص عمر بن شاهين في كتاب “ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث فيه”: ولست أعلم من أي جهة ضعف”[12].
“وبإنعام النظر في أقوال من ضعف سعد بن سعيد، نجد أن قول الإمام أحمد: ضعيف، جرح غير مفسر.
وقول النسائي: ليس بالقوي، جرح غير مفسر، والأقرب أن الإمام النسائي تابع الإمام أحمد فيما ذهب إليه من حال سعد بن سعيد”[13].
قال الذهبي: “وقد قيل في جماعات: ليس بالقوي، واحتج به. وهذا النسائي قد قال في عدة: ليس بالقوي، ويخرج لهم في كتابه، فإن قولنا: ليس بالقوي، ليس بجرح مفسد”[14].
“فكلمة ليس بالقوي إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة، والنسائي يراعي هذا الفرق، فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء، منهم عبد ربه بن نافع، وعبد الرحمن بن سليمان الغسيل، فبين ابن حجر في ترجمتيهما في “مقدمة الفتح” أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقرانهما”[15].
وقول الترمذي: وقد تكلم بعض أهل الحديث في سعد بن سعيد من قبل حفظه – غير مبين أيضا؛ إذ لم يعرف الجارح ولا سبب الجرح.
كما يحمل تضعيف الإمام أحمد على أنه ضعف نسبي، فسعد بن سعيد غالبا ما يذكر إلى جانب أخويه الثقتين، وفي أكثر من موضع يذكر مع أخويه في سياق واحد، كما قال أحمد: ليس هو مثل هؤلاء، أعني أخويه، يحيى وعبد ربه، فهو بالنسبة إليهما ضعيف، ويؤيده قول ابن سعد في الطبقات: ثقة، قليل الحديث دون أخيه، يعني عبد ربه.
فبعض أهل العلم يعبر عمن يذكر إلى جنب ثقة وهو دونه بضعيف، أي: ضعيف بالنسبة إلى الثقة، وبعضهم يعبر عمن هو دون الثقة بلفظ توثيق، كما فعل ابن سعد عند ذكر الأخوين معا.
وفي حال لو ذكر إلى جانب ضعاف رفع من شأنه، وهذا أمر مسلم به لدى من له عناية بهذا الشأن، قد سبر تراجم الرجال، وعارف بنهج المحدثين.
وبعد نقد ودراسة مرويات سعد بن سعيد بن قيس بن فهد الأنصاري، وحصر ما أخطأ فيه أو وهم، مقارنة بالحفاظ المتقنين، لابد أن ينزل رتبة عن رتبة الثقة، بيد أنه لا يقل رتبة عن حسن الحديث إن لم يكن أفضل حالا من ذلك[16].
ثم هل كل من غلط أو أخطأ ضعيف؟
قال الذهبي في ترجمة الحسين بن ذكوان المعلم: “ضعفه العقيلي بلا حجة…، ووثقه ابن معين، وأبو حاتم، وقال يحيى القطان مرة: فيه اضطراب، وذكر له العقيلي حديثا واحدا غيره يرسله، فكان ماذا؟ فمن ذا الذي ما غلط في أحاديث؟! أشعبة؟! أمالك؟!”[17].
وقال الذهبي أيضا: “وليس من شرط الثقة ألا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو”[18].
إن ما ذهب إليه الإمام أحمد، والنسائي والعقيلي والترمذي بيناه، وهو مقابل بتوثيق كثير من أئمة الجرح والتعديل، فقد وثقوه وعدلوه، ويضاف إلى ذلك ويقابله إخراج مسلم له في “الصحيح” والاحتجاج به.
ذكر من وثق سعد بن سعيد من أئمة الجرح والتعديل:
· قال يحيى بن معين: “سعد بن سعيد: ثقة، وفي “سؤالات ابن محرز لابن معين” قال ابن معين: سعد بن سعيد: ثقة”[19].
· قال ابن أبي حاتم: “عن يحيى بن معين، قال: سعد بن سعيد: صالح…، وسمعت أبي يقول: سعد بن سعيد الأنصاري مؤد. قال أبو محمد: يعني أنه كان لا يحفظ، يؤدي ما سمع”[20].
· قال ابن سعد عنه: “ثقة، قليل الحديث دون أخيه، يعني عبد ربه”[21].
· قال عنه ابن عمار الموصلي: “ثقة، كما في تاريخ أسماء الثقات لأبي حفص عمر بن شاهين”.
· وقال العجلي: مدني ثقة” [22].
· قال ابن حبان ذاكرا إياه في الثقات: “وكان يخطئ، لم يفحش خطؤه، فلذلك سلكناه مسلك العدول” [23].
· قال ابن عدي في ترجمة سعد بن سعيد الأنصاري: ولسعد بن سعيد أحاديث صالحة تقرب من الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأسا بمقدار ما يرويه”.
· وقال أحمد بن صالح: “ثقة، قال ذلك مغلطاي في “إكمال تهذيب الكمال” في ترجمة سعد بن سعيد الأنصاري”.
· وقال الدارقطني: “سعد بن سعيد بن قيس، أنكر عليه حديث عمرة عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن صلاتين…»[24] الحديث. والمحفوظ عن عائشة:«ما دخل علي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد العصر إلا صلى ركعتين» [25] وليس به بأس.
· لذا لم يعل الدارقطني رواية سعد بن سعيد في كتابه “التتبع على صحيحي البخاري ومسلم”، ولم يذكره في كتابه ” الضعفاء والمتروكين”.
· قال النووي في “المجموع شرح المهذب” حول حديث عائشة «كسر عظم الميت ككسره حيا»[26]: “رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا رجلا واحدا، وهو سعد بن سعيد الأنصاري أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، فضعفه أحمد بن حنبل ووثقه الأكثرون، وروى له مسلم في “صحيحه” وهو كاف في الاحتجاج به”[27].
· قال أبو حفص بن الملقن في “البدر المنير”: هذا الحديث رواه أحمد في “مسنده” وأبو داود وابن ماجه والبيهقي في سننهم، من حديث عائشة بإسناد صحيح، وسعد بن سعيد الأنصاري المذكور في إسناده من فرسان مسلم.
· وهذا يدل على أن من وجوه توثيق الراوي احتجاج أحد الشيخين أو كلاهما به. فمذهب أهل العلم فيمن احتج به الشيخان أو كلاهما، كان ذلك توثيقا له.
· ولذا فاحتجاج الإمام مسلم بسعد بن سعيد بن قيس الأنصاري في الصحيح وتسليم أئمة الجرح والتعديل له، يرد قول من ضعفه، ويزيد النفس اطمئنانا إلى هذا القول؛ عندما نجد كثيرا من أئمة الجرح والتعديل قالوا بتوثيقه [28].
· ولذا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقال عنه: “أحد الثقات”[29].
· وذكره الذهبي أيضا في الكاشف وقال عنه: “صدوق”[30].
· وقال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود: “ثقة صدوق”.
وأخيرا نقول: من أجل كلام الإمام أحمد والنسائي نزل سعد بن سعيد الأنصاري عن رتبة الثقة إلى ما هو دون ذلك، وأحسن ما يقال فيه: أنه صدوق حسن الحديث[31].
لكن لا يجوز بحال أن نقول: إنه ضعيف الحديث، والله أعلم.
وبذلك تتبين براءة الإمام مسلم من اتهامه بالرواية عن الضعفاء؛ فضلا عن المتروكين.
الخلاصة:
· إن القول بأن الإمام مسلما قد روى عن الضعفاء قول مردود؛ إذ إنه قد روى عن الطبقة الثانية وليس في ذلك عيب؛ فقد يروي عن راو ضعيف عند غيره ثقة عنده، ولا يقال: الجرح مقدم على التعديل، أو أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد، لا في الأصول، أو أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه، باختلاط حدث له، أو أن يعلو بالشحص الضعيف إسناده، وهو عنده من رواية الثقات نازل، فيقتصر على العالي.
· المعروف عند أهل العلم بالحديث وعند من له بصيرة بهذا الأمر أن للإمامين الجليلين البخاري ومسلم شروطا خاصة وعالية قد وضعاها في ضبط المتون وانتقاء رجال الأسانيد.
· ربما يروي الإمام مسلم عن راو ثقة عنده، بينما يرى غيره أنه غير ثقة، ولكن الجرح فيه ليس مفسرا، ولا يقبل الجرح إلا إذا كان كذلك؛ ولذا لا يلتفت إلى مثل هذا.
· سعد بن سعيد الأنصاري وثقه جمهور أئمة الجرح والتعديل؛ مثل يحيى ابن معين، وابن سعد، وابن عمار الموصلي، وأحمد بن صالح، والعجلي، والدارقطني، وابن حبان، وابن عدي، وابن شاهين، وروى له شعبة، وشيوخ شعبة عامتهم جياد.
· من وجوه توثيق الراوي احتجاج أحد الشيخين أو كلاهما به، فاحتجاجهم يعد توثيقا لمن احتجا به، وما دام الإمام مسلم قد احتج بسعد بن سعيد الأنصاري وروى عنه، فإنه يدفع باحتجاجه ما تكلم به فيه.
· تضعيف الإمام أحمد والنسائي ومن تابعهما لسعد بن سعيد ليس مفسرا، كما يمكن توجيه تضعيفهم على أنه ضعف نسبي بالنسبة إلى أخويه يحيى وعبد ربه، وأما إذا كان هذا التضعيف لبعض رواياته التي أنكرت، فليس ذلك معتبرا؛ لأنه ليس من شرط الثقة ألا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو.
إن نزل سعد بن سعيد الأنصاري رتبة عن الثقة، لتضعيف أحمد والنسائي له، فإنه لا ينزل عن درجة حسن الحديث؛ لذا فهو صدوق حسن الحديث، ولا يجوز ألبتة وصمه بالضعف.
(*) مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/2007م.
[1]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/131).
[2]. شرح علل الترمذي، ابن رجب، تحقيق: د. نور الدين عتر، دار الرشد، الرياض، ط4، 1426هـ/ 2005م، (2/613).
[3]. العلل ومعرفة الرجال، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1408هـ/ 1988م، (1/513).
[4]. سؤالات أبي داود، الإمام أحمد بن حنبل، (1/13)، نقلا عن: مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص135.
[5]. السنن الكبرى، النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/1991م، (1/141).
[6]. السنن الكبرى، النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري وسيد كسروي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ/1991م، (2/163).
[7]. مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص136.
[8].كتاب: الضعفاء والمتروكين، النسائي، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1406هـ/1986م، (1/191).
[9]. الضعفاء الكبير، العقيلي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1998م، (3/280).
[10]. مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص137.
[11]. سنن الترمذي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، د. ت، (3/133).
[12]. مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص137.
[13]. مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص144.
[14]. الموقظة في علم مصطلح الحديث، الذهبي، تحقيق: عبد الفتاح أبوغدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، سوريا، ط3، 1418هـ، ص82.
[15]. التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، عبد الرحمن المعلمي اليماني، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دار المعارف، الرياض، ط2، 1406هـ، (1/380).
[16]. مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص145: 147 بتصرف.
[17]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (1/535،534).
[18]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (13/233).
[19]. معرفة الرجال، يحيى بن معين، مطبوعات مجمع اللغة العربي، دمشق، د. ت، (1/96).
[20]. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (4/84).
[21]. الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق: د. علي محمد عمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م، (7/519).
[22]. معرفة الثقات، أحمد بن عبد الله العجلي، تحقيق: د. عبد العليم عبد العظيم البستوي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/390).
[23]. الثقات، ابن حبان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، ط1، 1393هـ/ 1973م، (6/379).
[24] . صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنهم، (20/ 104)، رقم (10445). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب : مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها، (2/77)، رقم (593).
[26] . صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الجنائز، باب: في الحفار يجد العظم هل ينتكب ذلك المكان، (9/18)، رقم (3205). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (2746).
[27]. المجموع شرح المهذب، النووي، دار الفكر، بيروت، د. ت، (5/300).
[28]. انظر: مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص143،140.
[29]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (5/482).
[30]. الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، الذهبي، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة للثقافة الإسلامية، مؤسسة علو، جدة، ط1، 1413هـ /1992م، ص428 .
[31]. انظر: مكانة الصحيحين والدفاع عن صحيح مسلم، د. أبو عمر عبد العزيز العتيبي الأثري، شركة غراس، الكويت، ط1، 1427هـ/ 2007م، ص152 بتصرف.