السماع
فمن بدعهم ما يسمونه سماعاً , وهو : سماع أناشيد وأبيات غزلية فيها ذكر الهجر والوصل , والقرب والبعد , والعذاب الملامة , والعذل واللوم , والقطيعة والشوق , والحب والعشق , والحبيب والمعشوق , والقدود والخدود , والحسن والجمال , والغنج والدلال , والخمر والكؤوس , والساقي والسيقان , مع الآلات وبدونها مكاء وتصدية , دون سماع القرآن وأحاديث سيد الأنام .
كما يقول ابن عجيبة الحسني : " السماع هو استماع الأشعار بالنغم والموسيقى " [1] .
وجعلوا هذا السماع من لوازم التصوف حيث نقلوا عن علم من الأعلام المتصوفة الحسين النوري أنه سئل عن الصوفي فقال :
" الصوفي الذي سمع السماع وآثر على الأسباب " [2] .
وقال أبن البنا السرقسطي :
وللأنام في السماع خوض لكن لهذا الحزب فيه روض
وإن للشــيوخ فنــــــّا إذ جعلوه للطريق ركنـــــــاً[3] .
ونقل الشعراني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول :
" مما يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن " [4] .
و " أنه من أسرار الله تعالى في الوجود " [5] .
وقالوا :
" السماع لصف غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدّق عن سائر الأعمال , ويدرك برقه الطبع لرقته , ويدرك بصفاء السر عند صفاء السر لأهله " [6] .
ونقلوا عن الجنيد أنه قال :
" الرحمة تنزل على الفقير في ثلاثة مواضع : عند الأكل فإنه لا يأكل إلا عند الحاجة , وعند الكلام فإنه لا يتكلم إلا لضرورة , وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد " [7] .
ويذكر الهجويري واحد من المشايخ أنه كان يقول :
" السماع تنبيه الأسرار لما فيها من المغيبات " [8] .
وأما الكلاباذي فيقول :
" السماع استجمام من تعب الوقت , وتنفس لأرباب الأحوال , واستحضار الأسرار لذوي الأشغال .
وإنما اختير على غيره مما يستروح – هكذا – إليه الطباع , لبعد النفوس عن التشبث به والسكون إليه , فإنه من القضاء يبدو , وإلى القضاء يعود " [9] .
ونقل الغزالي وأبو طالب المكي عن بعض المشائخ أنه قال :
" رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له : ما تقول في هذا السماع الذي أختلف فيه أصحابنا ؟
فقال له : الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام الفقهاء " [10] .
وأما ابن عجيبة فنقل هذا عن رسول الله حيث قال :
" حكى عن بعض الأبدال أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم , فقلت :
ما تقول في السماع الذي عليه أصحابنا ؟
فقال : هو الصفاء الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء "[11] .
ونقل الشعراني عن سهل بن عبد الله أنه كان يقول :
" معنى السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو , والعبارات تقصر عنه ولكن الصادقون – كذا – تشير إليهم المعاني فيستريحون بذلك من تعب الحجاب " [12] .
ونقل الوزير لسان الدين بن الخطيب عن أبي علي الروذباري أنه سئل عن حقيقة السماع فقال :
" المنطق الذي ظهر الحق به , ونطق به في الأزل " [13] .
والقشيري ذكر عنه أنه سئل عن السماع فقال :
" مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب " [14] .
ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال :
" السماع وارد حق يزعج القلوب إلى الله " [15] .
ونقل القشيري عنه أنه سئل عن الصوت الحسن فقال :
" مخاطبات وإشارات أودعها الله تعالى كل طيب وكل طيبة " [16] .
وهو الذي روى عن بعض المتصوفة أنه سئل عن السماع فقال :
" بروق تلمع ثم تخمد , وأنوار تبدو ثم تخفى , ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين , ثم أنشأ يقول :
خطرة في السر منه خطرت خطرة البرق ابتدى ثم أضمحل
أيّ زور لك لو قـصداً سرى ومسلم بــــك لو حقاً فـــــعـــل [17] .
ونقلوا عن السري السقطي أنه قال :
" تطرب قلوب المحبين إلى السماع , وتخاف قلوب التائبين , وتكاب قلوب المشتاقين " [18] .
ونقل الغزالي عن أبي الحسين الدراج أنه قال :
" جاء بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجود الحق عند العطاء , فسقاني بكأس الصفاء فأدركت به منازل الرضاء , وأخرجني إلى رياض التنزه والفضاء " [19] .
وهناك كلام القشيري في رسائلة كاد أن يكون جامعاً وشاملاً لهذه المعاني كلها حيث يقول تحت عنوان " ما السماع " :
" السماع إدراك الغيوب بسمع القلوب بفهم الفؤاد لحقائق المراد , الوقوف على إشارات الحق عند وجود عبارات الخلق , الترقي مما يقرع سمع الظاهر إلى ما يوجب جمع السرائر إصغاء القلب إلى خطاب الغيب , إشارات ترد على الأسرار عند عبارات تسمع من الأغبار إنطلاق لسان السرائر إذا سكت لسان الظواهر , جريان لسان الفؤاد والعبد ساكت بين العباد , مفاوضة الأحباب وسكوت اللسان عن الخطاب .
السماع من موجبات الرأفة ومذهبات الكلفة , السماع سفير يؤدي إليكم رسائل الغيب بحسن التولي , غذاء الأرواح وشفاءها , روح القلوب وصفاءها , لطائف الغيب وزوائده , نتائج القرب وعوائده .
السماع يبرز كل وجد كامن ويزعج كل قلب ساكن , السماع مبهج لقوم ومزعج لقوم لأنه يفيد قوماً وبيد قوماً من إفادة أبهجة وأصحاه ومن إبادة أزعجه – أو لأم محاه – السماع غريم لا يرضى من الفقير إلا ببذل الروح لكنه يغنيه عن نيل كل ممنوع , السماع يقضي ويقتضي , يقضي كل كاتم ويملك السمع حتى لا يدخله لوم لائم , السماع تذكير ما سلف لك يوم الميثاق فيثير منك كوامن الاشتياق السماع معنى يصادفك بغتة ثم يفارقك فلتة فلا لوروده سبب ولا لزواله موجب يحتسب , السماع غيور لا يرضى بدون قتلك لكنه يتلطف في اقتاصك بخلتك " [20] .
فهذا هو السماع عند القوم , لخصناه من الكتب الموثوقة المعتمدة لديهم .
وقبل أن نذكر آداب السماع التي اختلقها المتصوفة وأوجدوها بياناً بأن له مقاماً وشأناً ومنزلة ومرتبة تضاهي القرآن الكريم الذي أنزله الله هدى للناس ورحمة وشفاء للمؤمنين , نريد أن نذكر بعض سماعاتهم التي كلف بها القوم وشغفوا بها , وطالما يجعلون تأثيرها أوقع في النفوس من آيات الذكر الحكيم لكي يعرف القارئ من أيّ نوع هؤلاء الناس ؟
فيذكر ابن الملقن عن صوفي مشهور عمرو بن عثمان المكي المتوفى 297هـ أنه دخل أصبهان , فصحبه حدث وكان والده يمنعه من صحبته , فمرض الصبي , فدخل عليه عمرو مع قوّال , فنظر الحدث إلى عمرو , قال : قل له يقول شيئاً , فقال :
مالي مرضت فلم يعدني عائد منكم ويمرض عبدكم فأعود ؟
فتمطى الحدث على فراشه وقعد , وقال للقوال : زدني بحبك لله .
فقال :
وأشدّ من مرضي على صدودكم وصدود عبدكم عليّ شديد
أقسمت لا عَلِق الـفؤاد بغيركم ولكم عليَ بما أقول عهود
فزاد به البر حتى قام وخرج معهم [21] .
وذكر السلمي واحداً من أصحاب الجنيد وأحد مشائخ العراق وأئمتهم أبا محمد المرتعش النيسابوري والذي قال فيه أبو عبد الله الرازي " كان مشائخ العراق يقولون : عجائب بغداد في التصوف ثلاث : إشارات الشبلي , ونكت المرتعش , وحكايات جعفر الخلدي " يذكر عنه برواية أحمد بن علي :
" كنت عند المرتعش قاعداً , فقال رجل : قد طال الليل وطاب الهواء , فنظر إليه المرتعش وسكت ساعة ثم قال : لا أدري ما تقول , غير أني أقول ما سمعت بعض القوالين في بعض هذه الليالي يغني ويقول :
لست أدري أطال ليلي أم لا وكيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليـلى ولرعي النجوم كنت محـلي
إن للعاشقين عن قصر الليـ ـل وعن طوله من الوجد شغلا
قال : فبكى من حضره [22] .
وعنه ذكر ابن الملقن أنه قال لبعض جلسائه :
" أنشدني الأبيات التي كنت تنشد بالأمس , فأنشأ يقول :
وقف الهوى بي حيث أنت فليـ س لي متأخر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك لـــــذيذة حبّا لذكرك فليمـــلني اللــــوم
أشبهت أعـدائي فصرت أحبّهم إذ صار حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ما من يهون عليك ممن يـكرم [23] .
ونقل السهروردي في عوارفه عن ذي النون أنه لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوال , فاستأذنوه أن يقول شيئاً , فأذن له فأنشد القوال :
صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركاً
أما ترثي لمكتئب إذا ضحك الخلي بكــى
فطاب قلبه , قلبه وقام وتواجد وسقط على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض [24] .
ويذكر السراج الطوسي والهجويري عن الدراج أنه قال :
" كنت أنا وابن الفوطي مارّين على الدجلة بين البصرة والأبلّة وإذا بقصر حسن , له منظر وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول :
كل يوم تتلوّن غير هذا بك أجمل
في سبيل الله ود كان مني لك يبذل
قال : , وإذا شاب تحت المنظر , بيده ركوة وعليه مرقعة يتسمّع , فقال : يا جارية بالله وبحياة مولاك إلاّ إذا أعدت هذا البيت ,
قال : فأقبلت الجارية عليه وهي تقول هذا البيت :
كل يوم تتلوّن غير هذا بك أجمل ....
قال : فشهق شهقة وحمّد , شهقة وحمّد , فتأملناه فإذا هو ميت [25] .
ونقل الهجويري عن أحد مشائخه أنه قال :
سمعت مع درويش في بغداد صوت مغنّ كان يغنّي :
مني إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلاّ فقد عشنا بــها زمـناً رغداً
فصرخ ذلك الدرويش وفارق الدنيا .
ومثل هذا , يقول أبو الرودباري رضي الله عنه :
رأيت درويشاً كان قد شغل بغناء مغنّ , فأصغيت أنا أيضاً لأرى ما يقول , فكان ذلك المغنّي يقول بصوت حزين :
أمـد كـفى بالخــضوع إلى الـذي جـاد بالصـنيع
فصرخ الدرويش ووقع , فلما اقتربت منه وجدته ميّتاً [26] .
وأنشد أبو طالب المكي نقلاً عن بعض الصوفية أنه كان يقول :
يــا حبـيباً بـذكره نــتداوى وصفوة لـكل داء عجيــــــب
من أراد الطبــيــب سرّا إذا اشتياقاً إلـــى لقــاء الطبيب
من أراد الحبـيـب سار إليه وجفا الأهل دونــه والــقريب
ليس داء المحب داء يداوي إنما برؤه لقـــــــاء الحـــبيب [27] .
وأيضاً روى عن أبي تراب أنه كان ينشد :
لا تخـــدعن فللـــمحبّ دلائــــل ولديه من تحف الحبيب وسـائل
منـــها تنـــعمــه يمـرّ بــــلائه وسروره في كل مـا هو فــاعل
فالمنـع منــه عطيــة مقبـــولة والفقر إكـرام ولطــف عــاجــــل
ومن اللطائف أن يرى من عزمه طوع الحبيب وإن ألــح الـــعاذل
ومن الــــدلائل أن يرى مبتسما والقـــلب من الحـــبيب بـــــلابل
ومن الدلائل أن يرى متفــــــهماً لكلام من يحظى لذيه السائـــــل
ومن الدلائــل أن يرى متقشـفاً متحفظاً من كل ما هو قائــــــــل [28] .
وذكر ابن عربي في كتابه " محاضرة الأبرار " كثيراً من الأبيات الغزلية التي يتهمّ الصوفية بالاستماع إليها , فمنها ما ذكرها تحت عنوان " من السماع الصوفي " فيقول :
" وسماعنا على قول كثّير عزّة " :
لقد حلفت جـــــهداً بما حلفت له قريش غداه المــأزمين وصلّت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها كناذرة نذاراً فـــأوفت وحلّــت
فقلت لهــا يا عز كــلّ مصيبة إذا وطّنت يوماً لها النفس ذلـت [29] .
وقال أيضاً :
" وسماعنا على قول ابن الدمنية :
ألا يا صبا نجد متى هجـت من نـجد لقد زادني مسراك وجداّ على وجد
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى على فنن غضّ النبات من الـزنــــد
بكيـــت كــما يبكي الــوليد ولم تكن جليداً وأبديت الذي لم يــكن يبـدي
وقـــد زعـــموا أن المحب إذا دنــا يمـــلّ وأن النأي يـــشفي من الوجد
بكلّ تـــــداوينا فــــلم يشف ما بنا على أن قـــــرب الدار خير من البعد
على أن قرب الــدار ليس بــنافــع إذا كــــان من تـــهواه ليس بذي ودّ [30] .
ويقول : " وسماعنا على قول قيس المجنون أيضاً :
ألا يا حـــبذا نــجد وطيــب تــرابه وأرواحه إن كان نجــد على العهد
ألا ليت شعري من عوارضتي قبا بطول التــنائي هل تغيرتـا بـعدي
وعن جــارتينا بالأثيل إلى الحمى على عهدنا أم لم يدوسا على عهد [31] .
وأما كتابه " ذخائر الأعلاق " فكله ممتلئ بالتشبيب والتغزل والأبيات العشقية الداعية إلى الهزل والمجون والخلاعة , ذكرنا نبذة منها في كتابنا " التصوف : المنشأ والمصادر " [32] .
وقد ذكر الجامي في نفحاته أن هناك طائفة من الصوفية كثيراً ما ينشدون هذه الأبيات :
" قف بالــــــديار فهذه آثـــارهم تبكي الأحبـــة حسرة وتشوقاً
كــم قـد وقـفت بـها أسـأل مخـبراً عن أهلها أو صادقاً أو مشفقاً
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقت من تهوى تعز الملـتقى " [33] .
وذكر أيضاً أن مشائخ الصوفية ينشدون أشعاراً يصفون فيها راح المحبة وشوق وصل المحبوب , ومن ذلك البيت المشهور :
" هنيئاً لأهل الدير كم سكروا بهــا وما شربوا منها ولكـــنهم همو
على نفسه فلبيك من ضاع عمره وليس له فيها نصيب ولا سهم " [34] .
ونذكر بعض الأبيات التي ذكرها الغزالي من كبار المتصوفة فينقل عن النوري أنه كان مع جماعة في دعوى , فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين النوري ساكت , ثم رفع رأسه وأنشدهم :
"رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صلحت في فــــنن
ذكرت ألفاً ودهراً صـــالحــــــا وبكت حزناً فهاجت حـــــزني
فبكـــــائي ربــــما أرقــــــهــا وبكــــــاهــا ربــما أرقــــني
وبقد أشـــــكو فــــما أفهــــمها ولقد تشكو فما تفهمــــني
غير أني بالــجوى أعــــــرفــها وهي أيضاً بالجوى تعرفـني " [35] .
وذكر :
" وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها "[36] .
وأيضاً :
رقّ الزجاج ورقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر [37] .
ومن تلك الأبيات ما نقلها أبو المفاخر يحيى الباخرزي عن ابن الفارض أنه كان ينشد :
" شـربـنا عــلى ذكـر الحبيب مـدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها هلال وكم يبدو إذا مــــــزجت نجم " [38] .
فهذه نماذج للسماع الصوفي وأناشيد المتصوفة , و هناك كثير من الأبيات الغزلية باللغة الفارسية والأردية لدى المتصوفة أراد منها وأقبح , فيها الفسوق البيّن والفجور الظاهر , نعرض عن إيرادها تجنباً عن الإطالة .
ويقول أبو طالب المكي عن هذا السماع :
" تعرف مواجيد أصحابنا عند السماع " [39] .
ويكتب عن السماع أيضاً :
" و إنما ذكرنا هذا لأنه كان طريقاً لبعض المحبين , و حالاً لبعض المشتاقين , فإن أنكرناه مجملاً أنكرنا على سبعين صادقاً من خيار الأمة " [40] .
ويقول الأنصاري الهروي أن الأنس يتأتى من ثلاثة أشياء , منها : التغذي بالسماع [41] .
وهذه الأبيات والأناشيد والترانيم والقصائد والأشعار الغزلية المليئة بذكرها ما يذكره الغاوون لا تقرأ ولا تنشد بصوت طيب , بل تغنّى على ألحان وأنغام ومع آلات الطرب واللهو والغناء , كما أنه ليس من الضروري أن يكون القوال والمنشد رجلاً مسناً , بل ومن النبات والجواري تسمع ويصغي إليهن كما ذكر الجعلي الفضلي عن سيده إسماعيل الصوفي أنه :
" أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه , ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقص , ويضرب الربابة , كل ضربة لها نغمة يفيق منها المجنون , وتذهل منها العقول , وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى إن الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أن يضربها أحد , وفرسة بنت بكر يشدونها له ويلبسونها الحرحر والجرس وقوادها ماسكها أول ما تسمع ترنمه في كلام الحرب وهو يقول :
بنت بكر المراد ويوا ويوا سلطية العرضة ويوا ويوا
فإن الفرس تقوم وتومئ برأسها وتتأتى بيديها والعقد فيها شلو شلو ( حكاية لصوت العقد ) [42] .
وذكر عن سليمان الطوالي الزغرات أنه " كانت له جارية تضرب له الدلوكة إسمها منانة , كانت ضرابة لها بجميع أنواع الضرب يقول لها :
يا منـــانة دقّ الدلــوكة خـــادم الله المـــاك مملوكة " [43] .
وقد ذكر الشعراني أيضاً صوفية كانوا يضربون آلآت [44] .
والدباغ أيضاً ذكر صوفياً طبّالاً كن يضرب بالطبل ففتح الله عليه فبقي على حالته ولم يرجع عنها [45] .
وكتب الشعراني عن عمر بن الفارض أنه " كانت له جواري يغّنين له , فيقوم ويتواجد , وكان يتغالى في شرائهن لأجل حسن أصواتهن [46] .
وأتهموا عطاء أنه " كانت له جاريتان يلحنان , فكان إخوانه يستمعون إليهما " [47] .
وعلى ذلك قال الفيتوري :
" يجوز ضرب البندير ( من آلات الغناء ) والرقص كذلك إذا كان من تواجد " [48] .
وقال عماد الدين الأموي :
" لا بأس إذا كان في السماع آلة من دف أو شبابة , ولا بأس بالرقص في السماع " [49] .
ثم ذكروا آداباً لهذا السماع أو الغناء لا تقّل عن آداب سماع القرآن , بل وتفوقها كما يكتب القشيري في رسالته تحت عنوان " ما آداب السماع " ؟ فيقول :
القعود بالهيبة عند صحوك إلى أن تصل إلى الخمود والغيبة لمحوك ثم الأناخة بحقوة الخضوع بقلبك ناسياً أو متناسياً لخطاب من ربك ثم استشعار الخجل فيما يرقيك إليه الحق أو يلقيك به من وجود حال أو شهود مقام أو رويّة وصال أو توهم إكرام ثم ملاحظة ما يناغيك به من التقريب بعين السكر والنسيب ثم ترك المساكنة إلى ما يثني به الحق سبحانه عليك في سرك باستصغار حالك بل باستقذار قلك وكثرك ثم إخفاء حالك عن سقوط أحكام البشرية من تغيرك وتكدرك فيما تسامر فيه من غير إظهار فضل لك بكل وجه تدعيه أو حق من أحد تقتضيه ثم مراعاة حقوق الأكابر إذا حضروا موضع السماع بدوام السكون إلا عن غلبة الاختيار مسقطة ونازلة في الإزعاج مفرطة ثم كتمان ما تكاشف به من الأشراف على أحوال من هو دونك في الشرف والحال " [50] .
ويقول :
" وللسماع شروط أخر , فمنها أن لا يتخير فيما يسمع على القوال , ولا يصح عليه خطأه في الأقوال لأن ذلك سوء أدب في أحكام الحضرة " [51] .
وأما الباخرزي فيقول :
" من آداب الصوفية في السماعأن يصلّوا قبل الحضور في مجلس السماع , ويسألوا البركة من الربّ عز وجل , وأن يقعدوا فيه بالهيبة والوقار , ويلازموا السكينة والإخلاص "[52] .
وينقل كذلك عن روزبهان بقلي أنه قال في كتابه " الأنوار في كشف الأسرار " :
" من آداب السماع كذلك أن يكون القوال حسن الوجه لأن العارفين يحتاجون لاستجمام قلوبهم إلى ثلاثة أشياء : روائح طيبة , ووجه صبيح , وصوت حسن مليح كما قال عليه السلام : حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء , وقرة عيني في الصلاة " [53] .
ومن تلك الآداب ما ذكرها عبد السلام الأسمر في وصيته فيقول :
" أخواني : تأدبوا معها أي حضرة السماع وأحسنوها واخشعوا فيها كما تخشعون في الصلاة اللهم إلا إذا نزل بكم أمر غالب من وجد أو شوق أو ذوق أو حال أو جدب . فإذا أغمي على أحد منكم في الحضرة فقد سقط عليه التكليف فسقطوا له , وإذا شق بكم من ضرب أو مزاحمة أو صراخ يفسد عليكم ذكركم أو صوت قوي يخلط عليكم أو يشتتكم أو يضرّبكم ضرراً فأخرجوه من الحلقة برفق ولين ولا تضروه ولا تنازعوه ولا تهددوه ولا تفتحوا عليه , ولو غير الاسم الأعظم ولو كان يقول خا خاخا أو حاحاحا أو لالالا أو هاهاها أو كاكاكا أو فافافا أو أي حرف من الحروف الهجائية . فإذا لم يشق بكم ولا يضرّ بكم فلا تخرجوه من الحضرة إلى أن يشبع واجعلوه في وسطها وأحسنوا له الذكر وصوتوا فيه بالقوة إلى أن يلقي على الأرض أو يطيب . فإذا سقط على وجه الأرض فانقلوه بظرافة وتلقوه حين سقوطه على الأرض لئلا يتضرّر جسده .
إخواني : فاخرجوه بينكم بأدب وظرافة وألقوه على الأرض النظيفة واطرحوه عليها وغطوه بالإزار إلى أن يفيق ويرجع على ما كان عليه .
إخواني : وغمضوا أعينكم في الحضرة ولا يلتفت منكم أحد , وأحفظوا الحلقة لئلا يدخلكم الجان , وحفظ الحلقة هو الفاهق الذي هو في دائرة الحضرة ما بين الرجل والرجل ولا يدخل في وسط الحضرة منكم أحد إلا من غلب عليه , ما ذكرناه من جذب ونحوه .
إخواني : ومن أصابه الضراط فليخرج منها ويقضيه ويرجع إلى الحضرة " [54] .
ولم يكتف بهذا بل صرح بأشياء أخرى , فيها إهانات وخرافات , فيقول :
" وعند إنشاد كلامي إياكم والعبث والسخرية وكذلك حين الذكر والإنشاد وحين تنشدون كلامي فإن روحي تحضر بين أيديكم سواء حياً أو ميتاً .
إخواني : وحين ينشد أحدكم كلامي فأنصتوا له واستمعوا وحضروا قلوبكم معه وتأملوه .
إخواني : وعند قولكم لكلامي فلا تتحدثوا ولا تعيشوا وأخشوا فيه فإن روحي بين أيديكم ومعها ملكان صالحان .
إخواني : ولا تقطعوا كلامي وأتقنوه وأحسنوه واحفظوه حفظاً فائقاً .
إخواني : وإذا قلتم من كلامي قصيدة فلا تبطلوا في أثنائها إلى أن تتموها ولا نظروا , ولا تبتروها ولا تقطعوها ولو سمعتم الأذان المهم إلا إذا كنتم تشوشون على المؤذن أو تخلطوا عليه الآذان فأتموا سراً .
إخواني : من لا يهزه إنشادي ودفي فقد تغلظ طبعه وفسد مزاجه وفيه نزعة يهودية " [55] .
وحكى القشيري عن الجنيد أنه قال :
" السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء : الزمان والمكان والأخوان " [56] .
وقال الكمشخانوي :
" آداب الحضرة ثلاثة : دوام النظر , وإلقاء السمع , والتوطين لما يرد من الحكم " [57] .
وقد أطال الغزالي في ذكر آداب السماع :
" الأول : مراعاة الزمان والمكان والإخوان : قال الجنيد : السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع : الزمان والمكان والإخوان . ومعناه أن الإشتغال به في وقت حضور طعام أو حصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له . وإما المكان : فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك . وإما الإخوان : فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستقلا في المجلس واشتغل القلب به ...
الأدب الثاني : هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر ...
الأدب الثالث : إن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل , حاضر القلب , قليل الالتفات إلى الجوانب , متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد . مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره , متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب , ويجلس مطرقاً رأسه , كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه , متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة , ساكتاً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ فإن غلبه الوجد وحركة بغير اختيار فهو معذور غير ملوم ...
الأدب الرابع : أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة لأن التباكي إستجلاب للحزن , والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط , فكل مسرور مباح فيجوز تحريكه ...
الأدب الخامس : موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف , أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة , فذلك من آداب الصحبة . وكذلك إن جرت عادة طائفة تنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوب بالتمزيق فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة , إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم , ولا بد من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر , لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطيب القلب بالمساعدة " [58] .
فيا لهفتي ووا أسفي على فقيه مثل الغزالي الذي ذهب به التصوف إلى هذه المذاهب والمقالات التي لا تتصور عن عاقل ذي شعور أن يقولها أو يتلفظ بها دون أن تصدر من شخص فقيه متكلّم أصولي مناظر , ولله في خلقه شأن يهدي من يشاء ويضل من يريد , وبهذا يعرف قدرته واختياره , وعظمته وجلالته .
والهجويري أيضا بوب باباً في ذكر آداب السماع , وعد آداباً كثيرة , منها :
" إذا استولى السماع على جماعة ولم يكن له منه نصيب فينظر إلى سكرهم بصحوة فيجب أن يكون محتاجاً إلى الوقت ويمكن لسلطان الوقت لتصل إليه بركاته " [59] .
والسرقسطي أيضاً ذكر آداب السماع , ومن جملتها :
" ولا يجــــوز عنده التكلم ولا التلاهي لا ولا التبسم " [60] .
ثم يشرح ابن عجيبة الحسني هذا البيت بقوله :
" إنما لا يجوز التكلم عنده ( أي عند السماع ) لأنه عند العارفين محل الوجد والخمرة , والكلام يشوش القلب ويبعده من الحضرة , ويتلف عن الحقيقة , فالواجب تركه لمن أراد جبر قلبه ... وأما التبسم فإن فيه إساءة الأدب , فإن غلبه خرج , وإلاّ أُخرج وزُجر . قال السلمي رحمه الله : ولا يحضر مجلس السماع من يبتسم أو يتلاهى " [61] .
والشعراني نقل عن ابن عربي أن من آداب القوم في السماع أن لا يكون هناك من ليس من أهل طريقة أو من أهل طريقهم لكنه ينكر السماع ولا يقول به " [62] .
ويقول :
" وإذا سقطت عمامة الشيخ عن رأسه أو وضعها هو اختياراً لثقلها أو لشدة حر ونحو ذلك , فمن الأدب موافقة الفقراء له في ذلك , فيضعون كلهم عمائمهم كذلك , وإن رمى الشيخ عمامته إلى القوال أو رداءه فلهم أن يوافقوه بصدق , وليحذر أحدهم أن يرمي خرفته للقوال من غير إشارة الشيخ فإنه ترك الأدب , وإذا وقع من أحد من الفقراء خرفة أو عمامة في غير وجد , فيستحب للنقيب رفعها عن مواقع الأقدام إكراماً لها , وإن كانت عمامة الشيخ رفعها كذلك وصار قائماً بها إلى أن يطلبها الشيخ بالقرينة أو الإشارة , فهناك يتقدم النقيب ويضعها على رأس الشيخ قائلاً بسم الله الرحمن الرحيم مع إسشعار الحياء والأدب "[63] .
فهذه هي آداب السماع عند الصوفية .
ومن أشنع ما استحدثوه وابتدعوه في السماع هو الوجد والتواجد والرقص , وقد بوّبوا لبيانها أبواباً مستقلة , وفصّلوا الفصول , وما هي إلا خرافات وخرافات , وسخافات وسخافات , واستخفاف العقل والاستهزاء بالفكر ولكن أنّى للقوم أن يتعقلوا ويتفكروا , فقال السراج الطوسي مبيناً للوجد في باب مستقل من لمعه تحت عنوان " في ذكر اختلافهم في ماهية الوجد " قال :
" اختلف أهل التصوف في الوجد ما هو ؟ فقال عمرو بن عثمان المكي رحمه الله : لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين " [64] .
ونقل عن أحد المتصوفة أنه قال :
" إن الوجد مكاشفات من الحق , ألا ترى أن أحدهم يكون ساكناً فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق ... وقال أبو سعيد أحمد بن بشر بن زياد الأعرابي رحمه الله :
" أول الوجد رفع الحجاب , و مشاهدة الرقيب الفهم , وملاحظة السبب , و محادثة السر , وإيناس المفقود , وهو فناؤك أنت من حيث أنت .
قال أبو سعيد رحمه الله : الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب , فلما ذاقوها وسطع في قلوبهم نورها , زال عنهم كل شك وريب .
وقال أيضاً : الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب , لأن النفس محجوبة بأسبابها , فإذا انقطعت الأسباب , وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفاً , وتجعت فيه الموعظة والذكر وحل من المناجاة في محل غريب وخوطب وسمع الخطاب بأذنه واعية وقلب شاهد وسر طاهر , فشاهد ما كان منه خالياً , فذلك هو الوجد , لأنه وجد ما كان عنده عدماً معدوماً " [65] .
وقال الهجويري :
" أعلم أن الوجد والوجود مصدران : أحدهما بمعنى الحزن , والثاني بمعنى الوجد , وفعل كلاهما كأنه واحد , ولا يمكن التفرقة بينهما إلا بالمصدر , كما يقال : وجد يجد وجوداً ووجداناً : إذا صار محزوناً , وأيضاً : وجد يجد جدة : إذا صار غنياً , ووجد يجد موجدة : إذا غضب , والفرق بين هذه كلها يكون بالمصادر لا بالأفعال .
ومراد هذه الطائفة من الوجد والوجود إثبات حالين يظهران لهما في السماع , أحدهما مقرون بالحزن , والآخر موصول بالوجد والمراد .
وحقيقة الحزن : فقد المحبوب , ومنع المراد , وحقيقة الوجد : حصول المراد . والفرق بين الحزن والوجد هو أن الحزن اسم الغم الذي يكون في نصيب النفس , والوجد اسم الغم الذي يكون في نصيب الغير على وجه المحبة . وتغير هذا جملة صفة الطالب " والحق لا يغير " .
ولا تدخل كيفية الوجد تحت العبارة لأنها ألم في المغايبة , ولا يمكن بيان الألم بالقلم , فالوجد سر بين الطالب والمطلوب يكون بيانه في كشف تلك الغيبة , ولا تصح العلامة والإشارة إلى كيفية الوجود , لأنه طرب في المشاهدة , ولا يمكن إدراك الطرب بالطلب , فالوجود فضل من المحبوب إلى المحب , والإشارة معزولة عن حقيقته .
وعندي أن الوجد ألم للقلب , أما من الفرح أو الترح أو الطرب أو التعب . والوجود إزالة غم عن القلب ومصادقته لمراده .
وصفة الواجد : أما حركة في غليان الشوق في حال الحجاب , وأما سكون في حال المشاهدة في حال الكشف : " أما زفير وإما نفير , أما أنبن وأما حنين , أما عيش وأما طيش , أما كرب وإما طرب " [66] .
وقال الكلاباذي :
" الوجد هو ما صادف القلب من فزع أو غم أو رؤية معنى من أحوال الآخرة أو كشف حالة بين العبد وبين الله عز وجل ... وقال النوري : الوجد لهيب ينشأ في الأشرار , ويسنح عن الشوق فتضطرب الجوارح طرباً أو حزناً عند ذلك الوارد ... وقال بعضهم : الوجد بشارات الحق بالترقي إلى مقامات مشاهداته " [67] .
وأما الغزالي فقد أطال فيه الكلام فيه بعد ذكر الأقاويل الكثيرة عن المتصوفة والحكماء :
" أنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " [68] .
وأما القشيري فنقل عن محمد بن الحسيني أنه قال :
" سمعت عبد الواحد بن بكر يقول :
" سمعت عبد الله بن عبد المجيد الصوفي يقول : سئل رويم عن وجود الصوفية ( أي عما يجدونه ) عند السماع , فقال :
يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم : إليّ إليّ , فيتنعمون بذلك من الفرح ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء , فمنهم من يخرق ثيابه , ومنهم من يصيح , ومنهم من يبكي , كلّ إنسان على قدره " [69] .
وشرح عبد الله الأنصاري الهروي الوجد بقوله :
" الوجد لهب يتأجج من شهود عارض مقلق – ثم ذكر له درجات – فقال :
الدرجة الأولى وجد عارض .
والدرجة الثانية : يستفيق له الروح بلمع نور أزليّ أو سماع نداء أوّلي أو جذب حقيقي .
والدرجة الثالثة وجد يخطف العبد من يد الكونين , ويمحص معناه من درن الحظ , ويسلبه من رقّ الماء والطين [70] .
وأما النداء الأولي الذي أشار إليه الهروي في هذا النص قد ذكره كثير من المتصوفة في كتبهم , فيروي القشيري والسيد محمد ماضي أبو العزائم وغيرهما عن الجنيد أنه سئل :
" ما بال الإنسان يكون هادئاً , فإذا سمع السماع اضطرب ؟
فقال : إن الله تعالى لما خاطب الذّر في الميثاق الأول بقوله : ألست بربكم قالوا بلى , استفرغت عذوبة سماع الكلام والأرواح , فلما سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك " [71] .
فهكذا حاول الصوفية ربط سماعهم للأناشيد والأبيات الغزلية مع سماع نداء أولى .
وهناك أمثلة لتواجد المتصوفة وكيفيته , نذكر نبذة منها , فيذكر الطوسي :
" حكى عن الشبلي أنه تواجد يوماً في مجلسه فقال : آه ليس يدري ما بقلبي سواه , فقيل له : آه من أي شيء ؟ فقال :
من كل شيء وذكر عنه أيضاً تواجد يوماً فضرب يده على الحائط حتى علمت عليه يده قال : فعمدوا إلى بعض الأطباء , فلما أتاه قال للطبيب : ويلك ! بأي شاهد جئني ؟ قال : ألطف منه فلما أتاه قال له : ويلك , بأي شاهد جئتني ؟ قال : بشاهده قال : فأعطاه يده فبسطها وهو ساكت , فلما أخرج الدواء يجعله عليها , صاح وتواجد وترك إصبعه على موضع الداء وهو يقول :
أنْبَتَتْ صَبَـــــابتْكُــم فَرْحَةٍ عَلَى كَبِدِي
بتُّ مِـــن تَفجُعِكُــــــمْ كالأسيِر في الصـفدِ "[72] .
ونقلوا عن أبي سعيد الخراز أنه قال : رأيت علي بن الموقف في السماع يقول :
أقيموني , فأقاموه , فقام وتواجد , ثم قال : أنا الشيخ الزفان " [73] .
وحكى السهروردي عن الشبلي أنه سمع قائلاً يقول :
أسائل عن سلمي فهل من مخبر
يكون له علم بها أين تنزل
فزعق الشبلي وقال : لا والله , ما في الدارين عنه مخبر "[74] .
وذكروا عن عبد الله بن علي أنه قال :
" اجتمعت ليلة مع الشبلي رحمه الله , فقال القوال : شيئاً , فصاح الشبلي وتواجد قاعداً , فقيل له : يا أبا بكر , مالك من بين الجماعة قاعداً ؟
فقام وتواجد وقال :
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي [75] .
ويذكر الطوسي والغزالي :
" وكان الشبلي رحمة الله يتواجد كثيراً إذا سمع هذا البيت " :
ودادكـــــم هجر , وحبـــكم قلي
ووصلكم صرم , وسلمكم حرب .
وقام الدقي ليلة إلى شطر الليل وهو يتخبط ويسقط على رأسه ويقوم , والخلق يبكون , والقوالون يقولون هذا البيت :
بالله فاردد فؤاد مكتــئب
ليس له من حبيبه خلف [76]
ونقلوا عن أبي علي الرودباري أنه قال :
" جزت بقصر يوماً , فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً وحوله ناس مجتمعون , فسألت عنه فقالوا : أنه جاز بهذا القصر فسمع جارية تغني :
كبرت همة عبـــد طمعت في أن تراكاً
أو ما حسب لعين أن ترى من قد رآك
فشهق شهقة ومات " [77] .