لايصلون بالمساجد
نقل الشعراني في طبقاته :
" كان الإمام الحسن بن سمعون رضي الله عنه أماماً زاهداً ورعاً قلما يخرج من بيته إلا في أيام الجمع لأجل الصلاة , وطول نهاره في قعر بيته رضي الله عنه " [1] .
وذكر ظهير الدين القادري أيضاً صوفياً ما كان يخرج من منزله إلا للجمعات فيقول :
" كان ورعاً متديناً كثير العبادة منقطعاً في منزله من الناس لا يخرج إلا في الجمعات " [2] .
وليس ترك الجماعة فقط , بل الجمعة أيضاً كما ذكر المنوفي الحسيني عن الصوفي المصري الذي قال فيه " هو الولي المجذوب العالم القطب الشريف الشاذلي " فيذكر عنه أنه " ما كان يخرج من بيته إلا كل أسبوع لزيارة المشهد الحسيني وكان يخرج في موكب يذكر الله هو وإخوانه حتى إذا وصل إلى المسجد الحسيني كثر أنضمام الناس إليه وتزاحموا فيدخل بهم إلى صحن المسجد فيذكرون الله جميعاً " [3] .
فلم يكن غرض خروج هذا الصوفي من بيته إلا زيارة المشهد الحسيني , فأين الجماعة وأين الجمعة ؟
ثم ما الفائدة من هذا الذكر المقرون بالبدعات والخرافات مع ترك الجمعة والجماعة ؟
و هناك صوفي آخر ذكره صاحب " تنبيه المغتربين " أنه كان يخلّي ولده على الخلوة أربعين يوماً فلا يفتح عليه " [4] .
ويروي الجعلي الفضلي عن شيخه بأن النقا أنه مكث في خلوته أربعين يوماً [5] .
وهذه الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية ويعتزلون خلالها عن الناس ويرتاحون في الأربطة والغارات فيفوتهم ثواب السعي إلى المساجد وأجر الصلاة بالجماعة والجمعة قد ذكر فتوحها وفوائدها السهروردي والباخرزي أيضاً فيقولان :
" فإذا تمت الأربعون زالت الحجب , وأنصبت إليه العلوم والمعارف انصباباً ... فالعبد بنقطاعه إلى الله تعالى وأعتزال الناس يقطع مسافات وجوده , ويستنبط من معدن نفسه جواهر العلوم " [6] .
فيظنّ الصوفية بأن الله يفتح عليهم جواهر العلوم والمعارف , ويكشف لهم الغرائب والعجائب " تعويضاً عما تركوا لأجله " [7] .
هذا وقد ذكر الجامي عن الصوفي المشهور شمس الدين التبريزي أنه كان يمكث في خلوته ثلاثة شهور لا يخرج منها أصلا , كما أنه لم يكن يسمح أحداً بالدخول فيها [8] .
والشعراني يذكر صوفياً آخر مكث تسعة شهور في خلوته منقطعاً عن الخلق تاركاً للجمعة والجماعة فيقول :
" أنقطع الشيخ عبد الحليم المنزلاوي في الخلوة تسعة شهور يقرأ في الليل ختماً وفي النهار ختماً , ثم خرج ينفق من الغيب إلى أن مات , وأقمت عنده في زاويته نحو سبعة وخمسين يوماً فما رأيت الفقراء احتاجوا إلى شيء إلا ويخرج لهم من كيس صغير كعقدة الإبهام جميع ما يطلبونه " [9] .
ومما يدل على بعض الصوفية وكرههم للحضور في المساجد للجمعة والجماعة ما حكوه عن بركات الخياط نقلاً عن أبي السعود الجارحي أنه قال :
" مدحت الشيخ بركات الخياط للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة , فقالوا : أمضوا بنا نزوره , وكان يوم جمعة , فسلّم المؤذّن على المنار فقالوا له : نصلّي الجمعة , فقال : مالي عادة بذلك ( يعني أن الجمعة عادة وليست فرضاً ) , فأنكروا عليه , فقال : نصلي اليوم لأجلكم ( وليس لله ) , فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها ( أنظر الإستهزاء بالفرائض الإسلامية ) , ثم وقع في مشحنة حمير , ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ عبد الواحد الذي جاء بهم إليه , وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول : أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً , والله يا ولدي , مسقاة الكلاب إنما هي مطعمهم ومشربهم , وكذلك مشنحة الحمير إنما هي صورة اعتقادهم النجس " [10] .
وهناك آخر كان يمكث في خلوته ستة شهور كل سنة , لا يطعم شيئاً ولا يشرب , وإذا أراد الخروج من خلوته بعد ستة أشهر صاح بصوت عال ليختفي الناس عنه ولا يقع نظره على أحد لو وقع على أحد لكان أعمى عليه ليومين [11] .
هذا والصوفي الهندي القديم علاء الدين صابر الكليري المتوفى 690 هـ لم يخرج من خلوته سنتين [12] .
وأما الجعلي الفضلي فقد ذكر عن حمد النحلان الذي يقول فيه : " اجتمع بالخضر عليه السلام وأخذ عليه " يقول : " أنه مكث في الخلوة إثنين وثلاثين شهراً , وأخذ معه ثلاث سلق قرظاً وسبع تمرات , والخلوة فيها طاقة يناولونه بها الماء , وكل ليلة مطالة قدر عين الجمل لفطوره , فلما خرج من الخلوة وجدوا القرظ والتمرات والمطاطيل على حالها , والركوة ملآنة ماء , فجميع من شرب منها وقع مغشياً عليه وصار ولياً من أولياء الله تعالى " [13] .
ونقلوا عن الصوفي المشهور محمد الحنقي أنه أعتزل عن الناس وجلس في خلوة تحت الأرض سبع سنين , فيقول الشعراني نقلاً عن أبي العباس المرسي أنه قال :
" لما خرج الشيخ محمد الحنقي من الكتاب جلس يبيع الكتب في سوقها , فمّر عليه بعض الرجال فقال : يا محمد , ما للدنيا خلقت , فنزل من الدكان وترك جميع ما فيه من الغلة والكتب ولم يسأل عن ذلك بعد , ثم حبّب إليه الخلوة فأختلى سبع سنين لم يخرج في خلوة تحت الأرض دخلها وهو ابن أربع عشرة سنة " [14] .
ونقل ابن الملقن عن فتح بن شخرف الكسي أنه قال :
" تهت في الجبال سبع سنين " [15] .
وليس سبع سنين فحسب , بل ذكروا عن أبن عثمان الحيري من الصوفية القدامى المتوفي سنة 298 هـ أنه أختلى عشرين سنة لم ير أثناء هذه المدة الطويلة شبحاً من الناس , وبعد العشرين أمر بمخالطة الناس فخرج إليهم [16] .
ولم يكتفوا بالعشرين , فيذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض من كثرة إجتهاد وتعبّده , وكان إذا تكلّم بعلوم المعارف يدهش العالم [17] .
ولو أقتصر الأمر على هذا إلا أنه قد تجاوز عن ثلاثين سنة أيضاً فذكروا عن حسين أبي علي الذي يعتقدون فيه أنه " كان من كمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى , يناول الناس والفضة " يذكرون عن وليهم وعارفهم هذا أنه " مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء " [18] .
" الناس معذورون , يقولون : عبد القادر ما يصلي ... ولكن لنا أماكن نصلي فيها " [19] .
وهناك آخر أحمد المعشوق المتوفى 773هـ ذكروا عنه أنه كان تاركاً للصلاة فسأله الناس عن السبب فأجاب قائلاً :
" إني امرأة حائضة , لا تجب الصلاة عليّ " [20] .
وكذلك ذكر العطار عن ذي النون المصري أنه قال له أحد مريديه : حججت أربعين حجة وقمت الليل أربعين سنة ولكني ما حظيت بمحادثة الله تعالى ومكاشفاته , فقال له ذو النون : كل شبعاً و لاتصلّ العشاء .
وحكى عنه العطار أيضاً أنه كان تاركاً للصلاة وكان يقول : " أن الله رفع عني فريضة الصلاة " [21] .
ولكن الباحث والقارئ يتفحص أحوالهم وسيرهم في كتب الطبقات والسير ليرى العجب العجاب بأن القوم معظمهم لا يحضرون المساجد لأداء الصلوات الخمس ولا يحافظون عليها بل نقلوا عن كثير منهم بأنهم ما كانوا يخرجون من الروابط والزوايا , والصوامع والتكايا , والغيران والكهوف , والسراديب والخلوات أسابيع وشهوراً بل وسنوات أيضاً , لا للجمعة ولا للجماعة , مع ورود التشديد في الحضور لأداء الصلوات في المساجد ومع الجماعة بأوقاتها . فإن الله تبارك وتعالى حينما أمر المؤمنين بإقامة الصلوات , أمرهم بأدائها مع الجماعة , فقال : ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [22] .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أفضل الأعمال , قال :
( أفضلها الصلاة لأول وقتها ) [23] .
وعن أبي هريرة رضي الله قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى , فقال : يا رسول الله , إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد , فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته , فرخصّ له , فلما ولّى دعاه , فقال : ( هل تسمع النداء بالصلاة ؟ )
قال : نعم , قال : ( فأجب ) [24] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسه بيده , لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب , ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها , ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس , ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فيؤذن لها , ثم آمر رجلاً فيؤم الناس , ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم , والذي نفسي بيده , لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ) [25] .
وحث المؤمنين على الحضور في المساجد لأداء الصلاة مع الجماعة حيث قال :
( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة ) [26] .
وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون المنافق لعدم حضورهم للصلاة في المساجد مع الجماعة كما يروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , قال :
" لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه , أو مريض , إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة .
وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا الهدى , وإن من سرّه سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه . وفي رواية قال : من سرّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس , حيث ينادى بهن , فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى , وإنهن من سنن الهدى , ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنة نبيكم , ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم , وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور , ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكلّ خطوة يخطوها حسنة , ورفعه بها درجة , وحطّ عنه بها سيئة , ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلاّ منافق معلوم النفاق , ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " [27] .
فهذه نبذة يسيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , وإن الله أوجب الجمعة على المسلمين بقوله :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [28] .
( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا ) [29] .
وقال صلى الله عليه وسلم :
( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) [30] .
وقال : ( ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق ) [31] .
وقال عليه الصلاة والسلام :
( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) [32] .
وقال عليه الصلاة السلام :
( ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم ) [33] .
[1] طبقات الشعراني ج 1 ص 68 .
[2] الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 91 ط .
[3] جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 265 ط مؤسسة الحلبي القاهرة الطبعة الأولى 1387 هـ .
[4] تنبيه المغرين للشعراني ص 8 .
[5] كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط بيروت .
[6] عوارف المعارف للسهروردي ص 209 ط دار الكتاب العربي بيروت .
[7] أيضا 212 .
[8] نفحات الأنس للجامي ص 466 .
[9] أنظر تذكرة أولياء بر صغير لميرزه أختر الدهلوي ج 2 ص 42 ط باكستان .
[10] طبقات الشعراني ج 2 ص 135 .
[11] أيضا ج 2 ص 145 .
[12] أنظر تذكرة أولياء برصغير لأختر الدهلوي ج 2 ص 2 ط باكستان .
[13] كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط .
[14] طبقات الشعراني ج 2 ص 90 .
[15] طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 274 .
[16] خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 91 ط باكستان .
[17] كتاب اللمع للطوسي ص 500 .
[18] الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 2 ص 88 .
[19] جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 95 ط دار صادر بيروت , أيضاً طبقات الشعراني ج 2 ص 139 .
[20] تذكرة أولياء بر صغير للميرزه الدهلوي ج 3 ص 165 .
[21] أيضاً ص 86 .
[22] سورة البقرة الآية 43 .
[23] رواه أحمد والترمذي وأبو داود .
[24] رواه مسلم .
[25] رواه البخاري .
[26] متفق عليه .
[27] رواه مسلم .
[28] سورة الجمعة الآية 9 .
[29] رواه أبو داود والترمذي .
[30] متفق عليه .
[31] رواه أبو داود والترمذي .
[32] رواه مسلم .
[33] أخرجه الحاكم من حديث حذيفة والطبراني عن أبي ذر .