الشّبهة { واستغفر لهم الرسول }:
يستدلّ الشّيعة ومن نحا نحوهم في هذه المسائل بقول الله (جلّ وعلا): { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً{64}} (النّساء).
الجواب:
أولا: استدلال الشّيعة بهذه الآية هو مثال من مئات الأمثلة عن انحرافهم في الاستدلال بآي القرآن الكريم؛ حينما يعمدون إلى آية أو جزء من آية، فيجرّدونه من سياقه، وعن أسباب نزوله، ليستدلّوا به. والسّبب أنّهم يعتقدون ثمّ يستدلّون، ولا يستدلّون ليعتقدوا.
ثانيا: الآية لا دليل فيها البتّة على مشروعية التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا في حياته، ولا بعد موته، ولو قرأنا الآية بتمامها وقرأنا الآيات التي قبلها والتي بعدها لفهمنا معناها:
الآيات التي جاءت في سياقها هذه الآية هي كما يلي:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً{60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً{61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً{62} أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً{63} وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً{64} فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً{65} }.(النّساء)
فالآيات كما هو واضح تتحدّث عن قوم من المنافقين يرفضون المجيء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في حياته ليحكم بينهم بحكم الله ويستغفر لهم على ظلمهم أنفسهم.
قال الطباطبائي في تفسير الميزان:
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى آخر الآية. الزعم هو الاعتقاد بكذا، سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع، ولكون الزّعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظنّ أنّ عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه وليس كذلك، والطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت والجبروت والملكوت، غير أنّه ربما يطلق و يراد به اسم الفاعل مبالغة، يقال: طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره وكثرته، وكان استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة و هو خروج الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع، فالطاغوت هو الظالم الجبار، والمتمرّد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى و هكذا، وإليه يعود ما قيل: إن الطاغوت كل معبود من دون الله.
وقوله: بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على رسله، ولم يقل: آمنوا بك وبالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله وحكمه وبذلك يظهر أن المراد بقوله: "و قد أمروا أن يكفروا به" الأمر في الكتب السماوية والوحي النازل على الأنبياء: محمد ومن قبله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقوله: { أ لم تر..} إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: ما وجه ذكر قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول "إلخ" فقيل: أ لم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ والاستفهام للتأسف، والمعنى: من الأسف ما رأيته أنّ بعض الناس، وهم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب وإلى سائر الأنبياء والكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وقد بينه الله تعالى لهم بقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} ( البقرة: 213). يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت وهم أهل الطغيان والمتمردون عن دين الله المتعدون على الحق، وقد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، وكفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله وإبطال لشرائعه.
وفي قوله {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا }: دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان و إغوائه، و الوجهة فيه الضلال البعيد.
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا } إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي وهو الارتفاع، وصدّ عنه يصدّ صدودا أي أعرض، وقوله: { إلى ما أنزل الله وإلى الرسول }، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله ومن يحكم به، في قوله: يصدون عنك، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب والرسول معا لا الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله، فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.
ومن هنا يظهر أن الفرق بين الله ورسوله بتسليم حكم الله والتوقف في حكم الرسول نفاق البتة.
قوله تعالى: { فكيف إذا أصابتهم مصيبة } إلخ... إيذان بأن هذا الإعراض والانصراف عن حكم الله ورسوله، والإقبال إلى غيره وهو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله ورسوله، والتحاكم إلى الطاغوت، وقوله: {ثم جاءوك يحلفون بالله}: حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء، والمعنى - و الله أعلم -: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيئ ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب والرسول إلا الإحسان والتوفيق وقطع المشاجرة بين الخصوم.
قوله تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم}... إلخ: تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به، ولم يذكر حال ما في قلوبهم، وأنه ضمير فاسد لدلالة قوله: {فأعرض عنهم وعظهم} على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا وحقا ولا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق ويصدق في قوله.
وقوله: {وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه ويفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، وأنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.
قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}، رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عن الرسول، والحلف والاعتذار بالإحسان والتوفيق.
فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، وقد أوجب الله طاعته من غير قيد وشرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله، وليس لأحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله، وإنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، وترك الرسول في جانب، وإلا كان إشراكا بالله، وعبادة لرسوله معه، وربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة: أ بأمر من الله أم منك؟.
فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوب مطلق، وليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} الآية: "النساء: 80".
ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله ورسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله، ويلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع ولا ترضي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر، وذلك قوله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك}... إلى آخر الآية. (تفسير الميزان: 04/152-153).
ثالثا:لم يثبت عن أعلام أهل البيت – وهذا هو لبّ موضوعنا – أنّهم كانوا يذهبون إلى قبر نبيّ الهدى (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليستغفر الله لهم.
رابعا: القياس في العقائد والعبادات لا يصحّ؛ فلا يصحّ قياس حال النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته على حاله في حياته، وإلا لزم قياس التّحاكم إليه بعد وفاته على التّحاكم إليه في حياته، وهذا لا يقول به ولا يفعله عاقل، فلا أحد من المسلمين يأخذ خصمه إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليحكم بينهما، أو يذهب إليه في قبره (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليسأله في أمور دينه.
خامسا: "إذ" في اللّغة العربيّة، الأصل أنّها تفيد الماضي، إلا إذا جاءت في سياق يفيد غير ذلك، وقد وردت في القرآن الكريم في (103) موضعٍ (وليس موضعا)، كلّها تفيد الماضي إلا 09 مواضع، يتحدّث فيها المولى تبارك وتعالى عن اليوم الآخر.
فالآية تتحدّث عن شيء مضى وانقضى، ولا تتحدّث عن حكم شرعيّ، ولا شكّ أنّ لكلّ واقعة دروسا تستفاد منها، لكنّه لا ينبغي إغفال المتغيّرات، وإلا وقعنا في المتناقضات.
سادسا: الآيات تتحدّث عن أمر أساسيّ وهو التّحاكم، وأمر تابع له وهو طلب الاستغفار، والأمران لا يتمّان إلا في حضرة من يُتحاكَم إليه ويُطلب منه الاستغفار، أمّا الاستغفار في العموم فقد بيّن الله جلّ وعلا سبيله حينما قال: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }(آل عمران:135).
وقد جاءت الآية بأداة "إذا" التي تيفيد الحاضر والمستقبل.
سابعا: لقد نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يتّخذ قبره عيدا أي مكانا يعتاد ويزار في مواسم مخصوصة:
في (مستدرك الوسائل): العلامة الكراجكي في كنز الفوائد: عن أسد بن ابراهيم السلمي والحسين بن محمد الصيرفي معا، عن أبي بكر المفيد الجرجراني، عن ابن أبي الدنيا المعمر المغربي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) قال: " سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله ) يقول: (لاتتخذوا قبري عيدا، و لاتتخذوا قبوركم مساجدكم، ولابيوتكم قبورا) ". (مستدرك الوسائل: 02/287).
فلو كان الذّهاب إلى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأجل طلب الاستغفار منه ما نهى النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن اتّخاذ قبره عيدا.
***